موسيقى على طريقة الشجر
لا ينكر جيل بأكمله من نجوم الغناء والتأليف والتلحين في مصر والعالم
العربي أن الفنان الليبي الأصل حميد الشاعري هو الذي أحدث أهم انقلاب في تاريخ
الأغنية خلال الـ 25 سنة الأخيرة وهو الذي قدمهم وصنع منهم نجوماً. ~ مجلة كلام
الناس.
كما كان للثورة في العالم العربي موسيقى وأغنية، كان للموسيقى
والأغنية في هذا العالم ثورة، أطلق شرارتها حميد الشاعري - الذي غنى للثورة وقدم
أغاني "المرحلة" في أواخر السبعينيات - آتياً في بداية الثمانينات بلون
موسيقي وغنائي جديد ومختلف كلياً، كان السبب باتهامه في بداياته بأنه مفسد
الموسيقى والتراث الموسيقي، إلا أنه كان أيضاً السبب في الانتقال بالموسيقى
والأغنية العربية إلى آفاق لم يقتحمها أحد قبله، وإلى مستويات أرقى، حدودها السماء
بعيداً عن السائد والمألوف، جاعلاً الموسيقى كما لم تكن من قبل.
حميد الشاعري، صاحب رؤية التجديد في الموسيقى والأغنية، هو من أعاد
أغاني الزمن الجميل للساحة وعرف الأجيال الناشئة بعمالقة ذاك الزمن أمثال شادية
وعبدالحليم وفريد، وهو من اكتشف و/أو قدم وشارك في ميلاد نخبة من النجوم الشباب من
الجيل القادم آنذاك من مؤلفين وملحنين وموزعين ومطربين أمثال عمرو دياب وهشام عباس
وعلاء عبدالخالق ومصطفى قمر وسيمون ومنى عبدالغني وغيرهم الكثيرين، وذلك من خلال
توزيعاته الموسيقية الجديدة وعبر معادلته الفنية العبقرية التي مزج ضمنها بين
الموسيقى الشرقية والغربية في آن واحد، مدخلاً عليها الآلات الإلكترونية، ومقدماً
فن "البيت بوكس Beat Box" العالمي الذي
انتشر في الغرب منذ عشرات السنوات، ومضفياً على إيقاع المقسوم الذي يعد من أشهر
الإيقاعات الشرقية وأحبها إلى الأذن، شكلاً جديداً، فارضاً إياه كإيقاع متجدد
وجديد في توزيعاته، وكأساس للإيقاعات والألحان الشبابية، معتمداً أيضاً على أجهزة
الكمبيوتر وبرامج الموسيقى في التوزيع، وعلى استخدام أسلوب الـ "Sampling"
للآلات الموسيقية بدلاً من العزف الحي، منتقلاً بعملية التسجيل إلى الأسلوب
الرقمي، هذا إلى جانب إدخاله لأساليب توزيع جديدة أخرى للصوت كأسلوب "Surrounded"
الذي يجعل الإيقاع في مدخل الأغنية يبدو وكأنه يلف بين السماعات الأمامية والخلفية
وينتقل بينها جميعاً.
كانت رؤية حميد الشاعري وجرأته على إطلاق هذا النوع المبتكر من
أساليب الفن الموسيقي ذريعة الكثيرين من أعداء التجديد للانقضاض على ثورته محاولين
إجهاضها بشتى الطرق بعد أن حورب مسبقاً في بلاده من قبل النظام الفاسد لمعمر
القذافي، ما كان سبباً في فشل أولى تجاربه الموسيقية والغنائية عندما أصدر ألبوم
"عيونها" في العام 1983، عكس ما حدث في تجربته الموسيقية والغنائية
الثانية، ألبوم "رحيل"، الذي قدمه بدافع الإصرار على الكفاح لأجل قضيته
وثورته التي جعلت منه اليوم العلامة المسجلة لنجاح أي فنان.
إلى جانب كل ذلك، وعلى الرغم من أن حميد الشاعري لا يعتبر نفسه
قادراً على غناء الموشحات، إلا أنه يمتلك إحساساً عالياً وأداءً جيداً في أعماله خاصة
وأنها جبلت في موضوعاتها بالعشق والوطن والإنسان بقضاياه، مخبرةً عن أسرار النفوس
وضمائر القلوب.
إن من لم يستمع لحميد الشاعري ولم يكبر على موسيقاه وأغانيه، هو
حقاً لم يتقن الاستماع للموسيقى بحرية ودون قيود، ولم تعبر الموسيقى التي انطلقت
من كوامن روح حميد الشاعري على طريقة الشجر إلى عميق روحه. من لم يستمع لموسيقى
حميد الشاعري وأعماله الغنائية لم يشعر بالحياة تأتي أحياناً مورقة يفيض منها الحب
والأمل، وأحياناً أخرى محملة بالوجع المغمس بالبحث عن الغد.
لقد قال أفلاطون: "من حزن فليستمع للأصوات الطيبة، فإن النفس
إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد"، فيما قال
الفقيه الأديب ابن عبد ربه الأندلسي: "قد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير
الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة
الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب"، أما بيتهوفن فقد قال: "الموسيقى
وحي يعلو على كل الحكم والفلسفات". من يستمع لموسيقى رائد الموسيقى الحديثة، حميد
الشاعري، لا بد أن تحضر هذه الأقوال جميعاً في ذهنه وأن يشعر بأنه المقصود بها.
حميد الشاعري هو حكاية جيل مروية ومرئية، من فوت الوقوف على
تفاصيلها، فوت الوقوف على حقبة مضيئة من حقب الحراك الفني، وعلى تدشين النقلة الثالثة في تاريخ الموسيقى المصرية بعد سيد درويش وبليغ حمدي، وعلى موسيقى وأغنية
لنفسه: https://www.youtube.com/watch?v=PeKf2hg1M08.
Comments
Post a Comment