إن النار لا يعذب بها إلا الله وإن من يبغض أخاه فهو قاتله وفي الظلمة سالك
من يقرأ سورة الحجرات يجد
قول الله: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، أي: لئلا
تَفَاخَرُوا، ويُريد بعضكم أن يَكون أكْرَم مِن بعض، فإن الطريق إلى الكرم غير هذا،
فـ: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، أي: تقوى الله التي تنبع من
التوحيد به وعبادته على نور منه وخشيته من حدوده ومحارمه، والمسابقة إلى الخيرات
التي يدعو إليها، وإتباع السيئة الحسنة ومخالقة الناس بالأخلاق الحسنة، ولا يجد: (وجعلناكم
شعوباً وقبائل لتعاركوا) كيفما يريد أصحاب المصالح لنا أن نفهمها.
إن الله أسمى من التعارك والقتل
والتمثيل والتنكيل باسمه، فتسطير الحسنات عنده لا يصح إلا بالأخلاق الحسنة النابعة
مما يدعو إليه، فبها فقط يكون الطريق إليه، وبحبها تكون محبته. إنه لا شيء يزكي
الإنسان ويرقى به سوى العقل الذي يعمل بدافع من المشاعر الإنسانية أي الغرائز العليا
في الإنسان كالمحبة وغيرها، فيقوم العقل بتمكين الإنسان من إدراك الذات
الإلهية وما جاءت به من فضائل وصفات كالمحبة المتجلية بالرحمة والكرم والعدل والرأفة، بينما تقوم المشاعر بتمكينه
من حب الذات الإلهية (الله)، وحب التخلق بمقتضى صفات الله وأسمائه وموجباتها على
ما يليق بهذا الإنسان، خاصة فيما يتعلق بالعليا منها.
وحيث أن المحبة أسمى
مقتضيات صفات الله وأسمائه، فهي بالضرورة الخُلُق الأساسي للسير على الطريق إليه جل
وعلا (مؤسس الأخلاق)، الذي أجمل عشر وصايا إلهية في سورة الأنعام بقوله: (قُلْ
تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ
إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ
تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
ومن هذه الوصايا الإلهية
التي تعتبر مزيجاً متناغماً بما جاءت به من توصيات عقائدية ترتبط بالإيمان السليم
الذي لم يكن يوماً شيئاً إلا إقرار وتسليم صحيح بالله الخالق الأول العلي المهيمن
الملك مالك الملك الباقي الآخر الباعث المحيي المميت المنتقم الغفور، وأخرى سلوكية
ترتبط بالعلاقات الاجتماعية، وغيرها روحانية ترتبط بنمط حياة الإنسان وتصوراته، فإنه
ليس لعاقل إلا أن يدرك أن الدين كله هو الخُلُق، وعليه فإن من زاد عليك في الخُلُق
فقد زاد عليك في الدين وفي الإسلام، الدين الذي يعرّف بالإيمان بذات إلهية جديرة
بالطاعة والعبادة، والإسلام الذي يعرّف بالتسليم والتوحيد والخضوع للذات الإلهية
وما جاءت به مما شمل عمل القلب واللسان والجوارح فيكون مرادفاً للإيمان.
إن كل دين عند الله هو
الإسلام مهما تعددت المسميات وتنوعت الشرائع؛ ذلك أن خالقها واحد أحد، أنزلها على
الأنبياء والمرسلين كل في حياته على أقوامهم الذين سموا ما أُنزِل إليهم بتسميات
من عندهم، فقال من آمن بالله من اليهود كما جاء في سورة الأعراف: (إِنَّا هُدْنَـا
إِلَيْكَ) أي تبنا ورجعنا إليك، وقال من آمن بالله من النصارى أو المسيحية كما جاء
في سورة المائدة: (الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى) وفي ذلك النسبة إلى مدينة
الناصرة بلد السيد المسيح، بينما قال الله عز وجل وهو خير من قال، أن الأنبياء
السابقين كإبراهيم وبنيه كانوا يدعون إلى دين الإسلام، دين الإيمان والتسليم
والتوحيد والخضوع للذات الإلهية بعيداً عن أي تسمية كما جاء في سورة البقرة: (وَوَصَّى
بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، مع الأخذ بعين الاعتبار
أن التشريعات كانت تنزل لأهل كل زمان حسب حاجاتهم للدين في تنظيم أمور حياتهم.
إن من يقر بما جاء من عند
الله، ويشهد شهادة الحق بلسانه، ويحب خالقه ويسعى للسير على طريقه، قد آمن وأسلم فاستحق
لقب المؤمن والمسلم بالله مع ابتداء الإيمان والدخول في الدين، دين المحبة والرحمة،
وانخرط في المنظومة الإلهية الأخلاقية تلقائياً وسعى في دربه إلى مدارج السمو نحو
الله، فمن صلى بعد ذلك استحق لقب المصلي، ومن ركع استحق لقب الراكع، ومن سجد استحق
لقب الساجد، ومن تزكى استحق لقب المزكي، ومن أحسن استحق لقب المحسن، ومن أساء
استحق لقب المسيء، والجميع في هذا فقط متفاضلون، لا في الإيمان والإسلام، فلا
تنصبوا أنفسكم قضاة، ولا تنازعوا الله ألوهيته؛ إن مفاتيح الجنة والنار ليست
بأيديكم، ودعوا الخلق للخالق، ولا تكونوا قتلة؛ فإن القتلة لا يعلنون الحرب على
الآخرين إلا إذا كانت الحرب قد أعلنت داخل أنفسهم واشتد أوارها وثار غبارها فأعمى
العيون والأبصار.
Comments
Post a Comment