من تواضع لله رفعه أيها المصاب بجنون العظمة
آيتان كنزان من تحت عرش الرحمن، وصى بهما الإنسان، إن تفكر بهما قصر
اللسان وتواضع لخالقه وللأعيان.
قال الرحمن: (ولا
تمشِ في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ)، كما قال: (ولا تمشِ في
الأرض مرحاً إنك لن تخرِق الأرضَ ولن تبلغَ الجبالَ طولاً)، في أمر صريح بالتواضع
ونبذ الفخر والخيلاء، فلا يجوز للإنسان أن يرى نفسه على غير حقيقتها وعلى أعز مما
هي عليه في الواقع، كما لا يجوز أن يعدد مناقبه كِبَراً، فذلك من أخلاق الجاهلية،
ومن يقترف ذلك فهو كما ورد في رواية مسلم: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه
وأغيظه عليه).
قد يحاججك ذلك المختال عندما تتلو عليه هذه الكنوز بكنز رحماني آخر
جاء في قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)، وسيحاججك، حينها قل له: إن غاية التحدث
بالنِعَم هي شكر الله، والنعمة شكرها يكون بثلاثة: الاعتراف بها باطناً والإقرار
بأنها من فضل الله، والتحدث بها وبفضل الله ظاهراً، وصرفها في مصارف ترضي المتفضل
بها والاستعانة بها على طاعته.
قل له أن من يشكر نعم الله بغير تلك الثلاثة ومن يرتدي قناع الزيف
ويتقمص دوراً ليس دوره، فإنما هو سالك لطريق الضلال ليواري سوءاته. قل له أنه مصاب
بداء العظمة وأن لا عظمة إلا لله وحده إن نسي هذه الحقيقة.
وبالحديث عن الحقائق، فالحقيقة أن المصابين
بداء العظمة كثر، منهم من يعلم ومنهم لا يعلم، منهم من يشعر بالعظمة لتفوقه في
حياته أو أي من مجالاتها معتقداً بأن أحداً لن يضاهيه في هذا التفوق، ومنهم من لم
يعرف طعم النجاح قط، فوسوس له جنونه اصطناع القيمة لنفسه في
بحور خيالاته، وراح يبحث عنها في أعين من حوله بزيف ادعاءاته وبِضَعَته.
هؤلاء المرضى من
الصنفين يبالغون بوصف ومديح أنفسهم بما ليس فيهم أو لديهم، فيدّعون امتلاك كل شيء؛
امتلاك الأموال الطائلة، والمعارف العلمية والعملية المتقدمة، والقدرات والمواهب
الخارقة، والعلاقات المهمة، والمغامرات الاستثنائية، والأخلاق العالية، والإنجازات
العظيمة، والبطولات التاريخية، والمواقف المشرفة، وحس الفكاهة الكبير، والمزاج
الإيجابي، والتأثير الفوري بالآخرين، غير مدركين لمعاناتهم الشديدة من مرض عقلي
ونفسي صرف يدفعهم دون مبرر لكثرة الكلام، وإطالة الحديث والتشعب والقفز به، كما
يدفعهم للكذب على الآخرين لأسباب وراثية أو أسرية أو نفسية أفقدتهم هويتهم.
هؤلاء المرضى بداء العظمة محترمون ادعاءً
وضيعون حقيقةً، هم كالمهيب ومن بعده العقيد، يبدأون بداياتهما وسينتهون كما
نهاياتهما كل في محيطه بسبب غطرستهم وتعجرفهم وكذبهم؛ الأول نصب نفسه فارس الأمة
العربية وسيف العرب والقائد المجاهد الذي امتدح حتى قيل فيه: (تبارك وجهك القدسي
فينا كوجه الله ينضح بالجلال)، والثاني نصب نفسه أمين القومية العربية والمفكر الأوحد
والثائر العظيم والمنظر الكبير وعميد حكام العرب وإمام المسلمين وملك ملوك
أفريقيا، ولا ذاك كان فارساً ولا الآخر كان أميناً، كلاهما تفوق بالطغيان والتجبر من بعد الخيلاء والتكبر.
إن كنت ممن يعانون من أحد من هؤلاء المرضى في
حياتهم، فقل له أن لا مَلِك إلا الله، وأن من تواضع لله رفعه، وأن لا مجد للرجل سوى
مجد واحد حقيقي هو التواضع، وأن قيمة الإنسان في ضميره، فحري به أن لا يبحث عنها
في أعين الناس. قل له إذا ارتاح الضمير ارتفع المقام، وإذا عرفت نفسك لا يضرك ما
قيل فيك، قل له: (ما يلفظ من
قول إلا لديه رقيب عتيد)، و(اخفض جناحك)، و(الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم).
Comments
Post a Comment