Skip to main content

الانتماء الوطني يعمل ولا يتكلم وشتان ما بين الاعتزاز بالوطن والتفاخر

إن حب الوطن أمر غريزي وفعل قلبي لا يمكن للإنسان الانفكاك عنه، كما أن الانتماء الوطني من أعلى القيم النبيلة كون الانتماء ما هو إلا إحساس صادق بحب الوطن وانصهار وجداني بأحداثه ومتغيراته، واندماج تام مع أفراده على اختلاف فئاتهم، وعمل جاد لضمان رقيه ورفعته.

وحيث أن الانتماء يعبر عن صلة الإنسان بالوطن، فإنه لا ضير إطلاقاً من الاعتزاز بهذا الانتماء وبالوطن الذي ننتمي إليه، على أن لا يتحول هذا الاعتزاز إلى تفاخر وكبر وخيلاء، فشتان ما بين الاعتزاز المتزن الممدوح المطلوب بالوطن وحبه والشوق له، والتفاخر والتباهي الذي يجعل الإنسان يرى من الصفات في نفسه ما يجعله أفضل من الآخرين وفي وطنه ما يجعله أعظم مقاماً من مقام غيره من الأوطان، وبالتالي السير نحو فخ النزعة الاقليمية.

إن الوطنية كما قال الأديب غسان كنفاني تعمل ولا تتكلم، فهي تظهر بالأفعال التي تنبذ الفئوية والقبلية والطائفية والاقليمية، كما تظهر بالوفاء لأرض الوطن وإنسانه وثرواته؛ حيث احترام الإنسان وتقدير الكفاءات وصيانة الحقوق والتوزيع العادل والتنمية والتعمير ونشر الرخاء والسعي للرفعة في كل المجالات. المحبون للوطن هم المخلصون لأرضه وإنسانه وثرواته، هم الذي يتشرفون بخدمة هذه الأرض وهذا الإنسان وهذه الثروات باعتبارها أمانة.

إن الوطنية لا تظهر بالأقوال والشعارات خاصة إن كانت تكرس لمظاهر الجاهلية من الفخر والمفاخرة بالنسب والحسب والأرض الصماء والتراب، تلك المفاخرة التي كانت أول ما أوقَع إبليس في المعصية؛ حيث افتخر على آدم بخلقه من نار وخلق آدم من طين؛ إذ كان يرى أن النار أفضل، وهذا ما حدث به أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام حين قال: "فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله، فلعمرو الله لقد فخر على أصلكم، ووقع في حسبكم، ودفع نسبكم، فالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية".

ولأن الفخر والمفاخرة بالنسب والحسب أمر مرفوض جملة وتفصيلاً، فسيقتصر الحديث هنا حول الفخر والمفاخرة بالأرض والوطن. ليكون الفخر بالأرض والوطن مقبولاً، عليه أن يبقى في حدود الاعتزاز المتزن وأن لا يصل لدرجة التفاخر المغرور، وليكون الوطن مدعاة لهذا الفخر المقبول والاعتزاز بعيداً عن الزهو والكلمات المنمقة، يجب أن يكون هناك من المبررات ما يكفي لتوليد هذا الشعور ولجعل الوطن من أفضل الأماكن في العالم للعيش بسعادة بغض النظر عن قوته الاقتصادية.

ومن أهم هذه المبررات: وجود المساواة بين أبناء الوطن واحترام كل منهم وضمان حقوقه، ونظام العمل العادل والأخلاقي، ونظام القضاء النزيه، والقوانين المنصفة، والشفافية، والحرية في كل مجالاتها حتى للأقليات، والمعاملة الحسنة المبنية على القيم والمبادئ، بالإضافة إلى السلامة والأمان حتى البيئي، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة ضرورة تأدية الواجبات.

وهنا يجب التنويه، بأن حب الوطن والشعور بالانتماء له لن يزول إن لم توجد هذه المبررات، إلا أن عدم وجودها يكفي للامتناع عن الفخر والتباهي المغرور بغير مكانهما وعلى غير صواب، فهما من الآفات المهلكات، وقد أهلك الناس اثنان كما ورد عن الإمام علي عليه السلام: خوف الفقر، والفخر.

وللسلامة من الفخر والتفاخر بغير مكانهما، على الإنسان خاصة إن كان في موقع المسؤولية أن يتدبر في حقيقة ما يمكله ويرى عجز نفسه ووطنه وأن يبادر بمعالجة هذا العجز وإصلاحه، ذلك أن الفخر والتفاخر يصلان بالإنسان إلى مقام من لا يحبه الله، فهو عز وجل لا يحب كل مختال فخور، ولأن يكون عبراً أحق من أن يكون مفتخراً.

إن العز مطلوب وملتمس، وإنه لا ينقص البشر إلا الثورة في قلوبهم.

Comments

Popular posts from this blog

119 كلمة تختزل الشارع الأردني

اللهجة هي لغة الإنسان المحكية التي جُبِل عليها فاعتادها، والتي تنتمي المفردات فيها لبيئة جغرافية أو اجتماعية محددة، فتميز أهلها، وهي تعبر عن تفاصيل وأحوال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. على الرغم من ثبات اللهجة، إلا أن مفرداتها التي لا يمكن إسقاطها أو إنكارها، قد تتبدل وتتغير من جيل إلى آخر حسب مستجدات الواقع المعاش وتأثير الزمان والبيئة المكانية والاجتماعية. وتتفرد اللهجة المحلية في الأردن بالكثير من الكلمات والمفردات والتعبيرات والتراكيب التي يتم تداولها في الشارع والمنزل والعمل وبين الأصدقاء والمعارف، وذلك على الرغم من الاشتراك في العديد منها مع لهجات الدول القريبة حدودياً. تالياً أهم 119 كلمة تختزل الشارع الأردني وتعبر عن واقعه: 1.     نشمي/ة: صفة تطلق على من به من الصفات الحميدة الكثير، وتتمثل فيه قيم الشهامة والشجاعة والإقدام وعمل الخير وغيرها. تكاد تكون حكراً على الأردنيين من الذكور والإناث.   2.     هلا عمي: مرادف لرد التحية أو رد الشكر. 3.      لغة الدواوين: اللغة المتداولة بين الشباب من الجنسين، ...

شركة كيربي الأردن وتسويقها المتواضع التائه بين النظرية والتطبيق

بعيداً عما تسوقه شركة كيربي للأنظمة المتعددة للتكنولوجيا ووحدتها لتحليل وتنقية المياه، فإن أول ما يتبادر للأذهان حالياً عند سماع اسمها هو مدى صعوبة التسويق عبر الهاتف وتحقيق الأهداف التسويقية المرجوة باعتماده كأسلوب راسخ، إلى جانب مدى عدم قدرة هذه الشركة على تطوير استراتيجيتها التسويقية وصياغة أخرى عصرية وفعالة تتناسب مع حجم الطلب والاحتياج الحقيقي للمستهلكين، وتستهدف الزبائن المحتملين والمهتمين فعلياً. منذ ما يزيد عن 5 سنوات على أدنى تقدير، من منا لم يستقبل - وما زال - دورياً على خط هاتفه المنزلي الأرضي مكالمة من أحد مسوقي شركة كيربي لأخذ موعد لزيارة منزلية من أجل استعراض أحد منتجات الشركة من أجهزة تحليل وتنقية المياه. على الأغلب لا أحد لم يحظ بفرصة استقبال هذه المكالمة التي جرت العادة على إنهائها بتذكير المسوق المتصل بأنه سبق وأن قام بزيارة مستقبل المكالمة بعد عدد اتصالات لا يحصى، وبأن المستقبل لم يرغب حينها ولن يرغب في أي وقت لاحق بشراء المنتج. الحقيقة، إن شركة كيربي تمتلك فريقاً تسويقياً يتمتع بالصبر والمثابرة، وهما صفتان من أولويات التسويق، إلا أنه لا يتمتع بالقدرة على ا...

عباءة الخال أو العم تراث بلا مجد

بالرغم من التحولات الكبيرة التي طرأت على حفلات الأعراس والتي فرضتها الرغبة بمواكبة الحداثة، ما زال الكثير من الناس يصرون على المحافظة على روح الموروث الشعبي في أعراسهم عبر اتباع بعض العادات والتقاليد القديمة، وهذا أمر جيد لا يعترض عليه أحد، لكن ما يجب الاعتراض عليه هو مجموعة العادات والتقاليد المقيتة في مضمونها كعادة ارتداء العروس عباءة خالها أو عمها. لمن لا تعلم حقيقة وقصة عادة ارتداء عباءة (عباية/ عباة/ بشت) الخال أو العم، فبقراءة سريعة لها ستجد أنها مجد كاذب قصد به جلب منفعة للخال أو العم؛ ذلك أن موافقة الخال والعم كانت مطلوبة قديماً لمباركة الزواج، فيقوم أحدهما بإلباس العروس عباءته التي تعتبر من اللباس الكامل والأصيل والموروث عن الآباء والأجداد، كدليل على حرصه على تسليم العروس لعريسها برداء الوجاهة، وكإشارة منه لمكانة العروس وأهميتها، والتأكيد على رضاه عن ذلك الزواج، إلا أن السبب الحقيقي لهذه العادة مغاير تماماً. عباءة الخال أو العم كان هدفها التودد لهما بمبلغ مالي كي يأذنا للعروس بالذهاب مع عريسها. يقال أن الخال أو العم كانا في الغالب يتنازلان عن مطلبهما المالي، إلا أن ا...