الانتماء الوطني يعمل ولا يتكلم وشتان ما بين الاعتزاز بالوطن والتفاخر
إن حب الوطن أمر غريزي وفعل
قلبي لا يمكن للإنسان الانفكاك عنه، كما أن الانتماء الوطني من أعلى القيم النبيلة
كون الانتماء ما هو إلا إحساس صادق بحب الوطن وانصهار وجداني بأحداثه ومتغيراته، واندماج
تام مع أفراده على اختلاف فئاتهم، وعمل جاد لضمان رقيه ورفعته.
وحيث أن الانتماء يعبر عن صلة
الإنسان بالوطن، فإنه لا ضير إطلاقاً من الاعتزاز بهذا الانتماء وبالوطن الذي
ننتمي إليه، على أن لا يتحول هذا الاعتزاز إلى تفاخر وكبر وخيلاء، فشتان ما بين الاعتزاز
المتزن الممدوح المطلوب بالوطن وحبه والشوق له، والتفاخر والتباهي الذي يجعل
الإنسان يرى من الصفات في نفسه ما يجعله أفضل من الآخرين وفي وطنه ما يجعله أعظم
مقاماً من مقام غيره من الأوطان، وبالتالي السير نحو فخ النزعة الاقليمية.
إن الوطنية كما قال الأديب
غسان كنفاني تعمل ولا تتكلم، فهي تظهر بالأفعال التي تنبذ الفئوية والقبلية
والطائفية والاقليمية، كما تظهر بالوفاء لأرض الوطن وإنسانه وثرواته؛ حيث احترام
الإنسان وتقدير الكفاءات وصيانة الحقوق والتوزيع العادل والتنمية والتعمير ونشر
الرخاء والسعي للرفعة في كل المجالات. المحبون للوطن هم المخلصون لأرضه وإنسانه
وثرواته، هم الذي يتشرفون بخدمة هذه الأرض وهذا الإنسان وهذه الثروات باعتبارها
أمانة.
إن الوطنية لا تظهر
بالأقوال والشعارات خاصة إن كانت تكرس لمظاهر الجاهلية من الفخر والمفاخرة بالنسب
والحسب والأرض الصماء والتراب، تلك المفاخرة التي كانت أول ما أوقَع إبليس في
المعصية؛ حيث افتخر على آدم بخلقه من نار وخلق آدم من طين؛ إذ كان يرى أن النار
أفضل، وهذا ما حدث به أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام حين قال: "فافتخر
على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله، فلعمرو الله لقد فخر على أصلكم، ووقع في حسبكم،
ودفع نسبكم، فالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية".
ولأن الفخر والمفاخرة
بالنسب والحسب أمر مرفوض جملة وتفصيلاً، فسيقتصر الحديث هنا حول الفخر والمفاخرة
بالأرض والوطن. ليكون الفخر بالأرض والوطن مقبولاً، عليه أن يبقى في حدود الاعتزاز
المتزن وأن لا يصل لدرجة التفاخر المغرور، وليكون الوطن مدعاة لهذا الفخر المقبول
والاعتزاز بعيداً عن الزهو والكلمات المنمقة، يجب أن
يكون هناك من المبررات ما يكفي لتوليد هذا الشعور ولجعل الوطن من أفضل الأماكن في العالم للعيش بسعادة بغض النظر عن قوته الاقتصادية.
ومن أهم هذه المبررات: وجود
المساواة بين أبناء الوطن واحترام كل منهم وضمان حقوقه، ونظام العمل العادل
والأخلاقي، ونظام القضاء النزيه، والقوانين المنصفة، والشفافية، والحرية في كل
مجالاتها حتى للأقليات، والمعاملة الحسنة المبنية على القيم والمبادئ، بالإضافة
إلى السلامة والأمان حتى البيئي، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة ضرورة تأدية
الواجبات.
وهنا يجب التنويه، بأن حب الوطن والشعور بالانتماء له لن يزول إن لم توجد هذه المبررات، إلا أن عدم وجودها يكفي للامتناع
عن الفخر والتباهي المغرور بغير مكانهما وعلى غير صواب، فهما من الآفات المهلكات، وقد
أهلك الناس اثنان كما ورد عن الإمام علي عليه السلام: خوف الفقر، والفخر.
وللسلامة من الفخر والتفاخر
بغير مكانهما، على الإنسان خاصة إن كان في موقع المسؤولية أن يتدبر في حقيقة ما
يمكله ويرى عجز نفسه ووطنه وأن يبادر بمعالجة هذا العجز وإصلاحه، ذلك أن الفخر
والتفاخر يصلان بالإنسان إلى مقام من لا يحبه الله، فهو عز وجل لا
يحب كل مختال فخور، ولأن يكون عبراً أحق من أن يكون مفتخراً.
إن العز مطلوب وملتمس، وإنه لا ينقص البشر
إلا الثورة في قلوبهم.
Comments
Post a Comment