Skip to main content

الملفات الطبية في الدراما ساحة مستباحة للتشويه والمغالطات

في ظل سطوة الدراما الاجتماعية التي تتفوق على نظيراتها من أنواع الدراما الأخرى من حيث الانتشار والمشاهدة، تم التوجه مؤخراً لتوظيفها في التثقيف الصحي ونشر التوعية خاصة حول الأمراض المنتشرة على نطاق واسع، أو تلك المستعصية، أو غير المعروفة، أو الأمراض التي يصعب تشخيصها.

وفيما تعد الدراما الاجتماعية ميداناً واسعاً للإبداع في التثقيف الصحي والوصول إلى أسماع الجمهور وأبصارهم ومن ثم فهمهم وإدراكهم، كما أنها تعد من أقوى الأساليب في تبليغ الرسالة لقدرتها على دمج المعلومة التوعوية بالخط الدرامي، وعلى محاكاة الواقع في شرح الحالة المرضية وما يتعلق بها، إلا أنها وللأسف الشديد ما زالت تفتقر للواقعية نظراً لافتقارها للدراسة والتقصي والبحث العلمي والطبي الدقيق حول الحالة في العمل الدرامي، ما يؤدي لمغالطات طبية تأتي بنتيجة توعوية عكسية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تفاجأت خلال متابعة بسيطة لبعض الحلقات الأولى لمسلسل "شهر زمان" السوري بأحد خطوطه التي تدور حول إصابة "جوري" التي تؤدي دورها الفنانة ديما قندلفت، بمرض التصلب اللويحي المتعدد Multiple Sclerosis، ذلك أن المسلسل يعتبر المحاولة الدرامية الأولى التي تأتي على ذِكر المرض.

لحقت هذه المفاجأة في الحلقة التالية لحلقة تشخيص "جوري" بالمرض، واحدة أخرى لكنها سلبية؛ إذ بدأت "جوري" بالمعاناة من أعراض المرض. المتابع العادي غير الملم بالمرض لن يدرك أية مغالطات طبية في المسلسل وقع بها كاتبه ومخرجه زهير قنوع، عكس المتابع الملم بالمرض والذي سيرى تسارع وقوع أعراض المرض لدى "جوري"، كما سيرى وصفاً غير دقيق وغير صحيح لهذه الأعراض بحيث لم يتم عكس الصورة الحقيقية لواقع الإصابة بمرض التصلب اللويحي، كل ذلك وسط تأكيدات طبيبها "الدكتور شربل" الذي يؤدي دوره الفنان جمال قبش، بأن المرض في بداياته وبأن العلاج موجود وسيكون فعالاً كون المرض لم يدخل مراحل متقدمة، علماً بأن المرض لا علاج له، والأدوية التي توصف للمرضى المصابين به لا تتجاوز كونها أدوية وقائية لا علاجية، قد تخفف من عدد الانتكاسات التي يشاع تسميتها بهجمات ومن حدتها، وقد لا تفعل في كثير من الأحيان.

كوني من عائلة تم تشخيص إصابة أحد أفراد أسرتها بالتصلب اللويحي، وكوني من الأشخاص الملمين بماهية المرض وطبيعة أعراضه وشكلها، لم أرَ في هذا الخط سوى تلاعب بقضية إنسانية بحتة ومتاجرة بآلام المرضى وعائلاتهم؛ إذ كانت حبكة درامية لم تهدف لبث الوعي حول المرض، بل كانت لخلق التشويق وشد المشاهد من خلال الأحداث التي تتعرض لها شخصيات المسلسل والتي لا يمكن أن يكون هناك أكثر مأساوية منها إلا إصابة إحداها بمرض مستعصٍ.

في أحسن الأحوال كان هذا الخط محاولة جاهلة غير مدعمة ببحث؛ حيث بدأت الأعراض بالتطور لدى "جوري" بشكل سريع الإيقاع مع طرح ساذج لطبيعة هذه الأعراض وشكلها بالنظر إلى تأثير المرض على قدرة "جوري" على الحركة والمشي بعد تأثيره على بصرها. لقد تم الاقتضاب ببعض الأعراض السابقة عادة لفقدان القدرة على المشي عند المريض الحقيقي، كما تم تصوير مرحلة فقدانها بما يشبه حالة الولادة في أحسن الأحوال، كما تم الربط بين تأثر بصرها وتأثر قدرتها على الحركة والمشي، بينما الموضوع مختلف تماماً؛ حيث أن مريض التصلب اللويحي الذي يفقد قدرته على المشي، لا يفقدها على مراحل كما في المسلسل، بل يفقدها مرة واحدة بعد تعرضه لمجموعة من الأعراض التي لا تشير عادة لما سيحدث من شلل في الحركة، كالشعور بالحرقان، وآلام الأذن، وازدياد الخدران والتنميل في الأطراف، والدوخة المتزايدة وعدم التوازن المضلل والتي لا تستقر أو تزول بشكل منتظم أو مفهوم، كما أن تأثر البصر يعد من الأعراض الرئيسية المنفصلة تماماً عن تأثر الحركة، والتي تسبقها أعراض ثانوية كضبابية الرؤية أو ازدواجيتها، أو فقدان البصر لثوانٍ على فترات متقطعة ليتبعها فقدان البصر الجزئي أو الكلي الذي لا يعود لطبيعته 100% بل لحد تصبح فيه الرؤية واضحة وثابتة.

لقد تم تصوير إصابة "جوري" بأنها من نوع التصلب المتعدد المترقي الأولي الذي يصيب غالباً الأشخاص بعد سن الخمسين، أو التصلب المتعدد الخاطف الذي يحتاج لبضع سنوات لتصبح فيه الإصابة شديدة، علماً بأن "جوري" سيدة لم تتجاوز من العمر 35 عاماً وفي بداية مرضها.

ويعتبر المرض حالة متقلبة وأعراضه تعتمد على المنطقة المصابة في الجهاز العصبي المركزي، ما يجعلها متنوعة ومختلفة من شخص لآخر، ويجعل كل مصاب حالة خاصة بنمط مرضي معين، فيكون الاختلاف في مدى شدة الالتهاب ومدته.

ومن أشهر الأعراض، اختلال في الإحساس، وفي البصر، وفي المخيخ، بالإضافة للاختلال في الحركة. وبشكل عام يمكن تقسيم الأعراض لشائعة وأخرى غير شائعة، فالشائعة تسبب اعتلال العصب البصري، وجذع المخ، والحبل الشوكي، واعتلال المخيخ، أما غير الشائعة فقد تسبب الإصابة بأمراض عصبية أخرى كالصرع أو ألم العصب الخامس، أو الاضطراب الذهاني العضوي. ويمكن إجمال الأعراض بمشاكل بصرية كالرؤية الضبابية أو الازدواجية في الرؤية، والتهاب العصب البصري، وحركات العين السريعة اللاإرادية، وفقدان البصر لدى بعض المرضى، بالإضافة لمشاكل التوازن وتناسق الحركات كفقدان التوازن، والرعاش، والترنح في المشي، والدوار، وعدم التناسق في الحركات خاصة في الأطراف، بالإضافة للضعف خاصة في الساقين، وللتشنجات نظراً لتغيرات في طبيعة العضلات، وفي بعض الحالات فقدان القدرة على المشي. ويضاف لذلك، التغيرات في الحس العصبي، والإحساس بالوخز، والتنمل، والإحساس بالحرقان، وصعوبات النطق أو النطق البطيء والتلعثم والنطق بغير وضوح، والاختلاف في اتزان/ تواتر النطق، وعسر البلع، وفي بعض الحالات فقدان القدرة على النطق. ولا تقتصر الأعراض على ما ذكر، بل أنها تشمل أيضاً مشاكل البول والبراز كالحاجة للتبول بين فترات قصيرة، والحاجة الفورية للتبول، وعدم تفريغ المثانة كاملاً، وعدم السيطرة على المثانة، والإمساك، وقد تظهر بعض المشاكل الجنسية كالعجز الجنسي أو فقدان الإحساس، كما قد تظهر الحساسية الزائدة من الحرارة سواء المنخفضة أو المرتفعة مما يسبب تدهور مؤقت للأعراض. كذلك، قد تظهر بعض الاضطرابات الإدراكية والعاطفية، وضعف في الذاكرة المؤقتة، وفقدان القدرة على التركيز أو الحكم الصحيح أو المنطق، دون إغفال التقلبات المزاجية أو الكآبة من الأعراض، مما يؤثر سلباً على المريض وعلى حياته العملية والاجتماعية وبالتالي على جودة هذه الحياة.

ومن الأنماط المرضية للتصلب اللويحي المتعدد، التصلب المتعدد متكرر الانتكاس والكمون، وفيه تحدث الانتكاسة متزامنة مع الأعراض ويعقبها فترة الكمون التي يتوقف فيها تطور المرض ويبدأ الجسم مرحلة الإصلاح الكلية أو الجزئية، والتصلب المتعدد المترقي الأولي، وفيه تحدث الانتكاسة متزامنة مع الأعراض ثم لا يعقبها فترة هدوء بل يستمر المرض في الترقي تدريجياً، وهذا النوع غالباً ما يأتي للشخص بعد سن الخمسين، والتصلب المتعدد المترقي الثانوي، ويبدأ به المرض كالنوع الأول ثم يتحول إلى حالة شبيهة بالنوع الثاني ويستمر بالترقي، وغالباً ما يتم هذا التحول بعد متوسط 6-10 سنين من المرض، والتصلب المتعدد المترقي المنتكس، وهو شبيه للنوع المترقي الأولي من حيث التطور التدريجي باستمرار للأعراض إلا أن الاختلاف في وجود فترات من الانتكاس تتخلل مسار المرض حيث تزداد الأعراض بشكل كبير أو تظهر أعراض جديدة، إضافة لنوعين آخرين هما التصلب المتعدد الحميد وهو أخف الأنماط وأقلها ضرراً حيث لا يترك المرض أي أعراض دائمة، والتصلب المتعدد الخاطف وفيه تحدث الانتكاسة ثم تتدهور حالة المريض بشكل سريع حيث يكون المرض عنيفاً جداً منذ البداية وفي أقل من 5 سنين يعاني المريض من إعاقة شديدة.


كنت وما زلت أتمنى أن يكون طرح الإصابة بمرض التصلب اللويحي المتعدد أو أي مرض آخر في الدراما نبيلاً قبل أن يكون توعوياً، إلا أن الملفات الطبية في الدراما لا تعدو كونها ساحة مستباحة للتشويه والمغالطات حول الأمراض والخرافات حول العلاجات والشفاء، دون أي اعتبار للأسى والحزن والمشاعر السلبية التي يشعر بها المريض الحقيقي عند مشاهدته لهكذا طروحات سببها جهل القائمين على الدراما والفن تضاف لقسوة مرضه.

Comments

Popular posts from this blog

119 كلمة تختزل الشارع الأردني

اللهجة هي لغة الإنسان المحكية التي جُبِل عليها فاعتادها، والتي تنتمي المفردات فيها لبيئة جغرافية أو اجتماعية محددة، فتميز أهلها، وهي تعبر عن تفاصيل وأحوال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. على الرغم من ثبات اللهجة، إلا أن مفرداتها التي لا يمكن إسقاطها أو إنكارها، قد تتبدل وتتغير من جيل إلى آخر حسب مستجدات الواقع المعاش وتأثير الزمان والبيئة المكانية والاجتماعية. وتتفرد اللهجة المحلية في الأردن بالكثير من الكلمات والمفردات والتعبيرات والتراكيب التي يتم تداولها في الشارع والمنزل والعمل وبين الأصدقاء والمعارف، وذلك على الرغم من الاشتراك في العديد منها مع لهجات الدول القريبة حدودياً. تالياً أهم 119 كلمة تختزل الشارع الأردني وتعبر عن واقعه: 1.     نشمي/ة: صفة تطلق على من به من الصفات الحميدة الكثير، وتتمثل فيه قيم الشهامة والشجاعة والإقدام وعمل الخير وغيرها. تكاد تكون حكراً على الأردنيين من الذكور والإناث.   2.     هلا عمي: مرادف لرد التحية أو رد الشكر. 3.      لغة الدواوين: اللغة المتداولة بين الشباب من الجنسين، ...

شركة كيربي الأردن وتسويقها المتواضع التائه بين النظرية والتطبيق

بعيداً عما تسوقه شركة كيربي للأنظمة المتعددة للتكنولوجيا ووحدتها لتحليل وتنقية المياه، فإن أول ما يتبادر للأذهان حالياً عند سماع اسمها هو مدى صعوبة التسويق عبر الهاتف وتحقيق الأهداف التسويقية المرجوة باعتماده كأسلوب راسخ، إلى جانب مدى عدم قدرة هذه الشركة على تطوير استراتيجيتها التسويقية وصياغة أخرى عصرية وفعالة تتناسب مع حجم الطلب والاحتياج الحقيقي للمستهلكين، وتستهدف الزبائن المحتملين والمهتمين فعلياً. منذ ما يزيد عن 5 سنوات على أدنى تقدير، من منا لم يستقبل - وما زال - دورياً على خط هاتفه المنزلي الأرضي مكالمة من أحد مسوقي شركة كيربي لأخذ موعد لزيارة منزلية من أجل استعراض أحد منتجات الشركة من أجهزة تحليل وتنقية المياه. على الأغلب لا أحد لم يحظ بفرصة استقبال هذه المكالمة التي جرت العادة على إنهائها بتذكير المسوق المتصل بأنه سبق وأن قام بزيارة مستقبل المكالمة بعد عدد اتصالات لا يحصى، وبأن المستقبل لم يرغب حينها ولن يرغب في أي وقت لاحق بشراء المنتج. الحقيقة، إن شركة كيربي تمتلك فريقاً تسويقياً يتمتع بالصبر والمثابرة، وهما صفتان من أولويات التسويق، إلا أنه لا يتمتع بالقدرة على ا...

عباءة الخال أو العم تراث بلا مجد

بالرغم من التحولات الكبيرة التي طرأت على حفلات الأعراس والتي فرضتها الرغبة بمواكبة الحداثة، ما زال الكثير من الناس يصرون على المحافظة على روح الموروث الشعبي في أعراسهم عبر اتباع بعض العادات والتقاليد القديمة، وهذا أمر جيد لا يعترض عليه أحد، لكن ما يجب الاعتراض عليه هو مجموعة العادات والتقاليد المقيتة في مضمونها كعادة ارتداء العروس عباءة خالها أو عمها. لمن لا تعلم حقيقة وقصة عادة ارتداء عباءة (عباية/ عباة/ بشت) الخال أو العم، فبقراءة سريعة لها ستجد أنها مجد كاذب قصد به جلب منفعة للخال أو العم؛ ذلك أن موافقة الخال والعم كانت مطلوبة قديماً لمباركة الزواج، فيقوم أحدهما بإلباس العروس عباءته التي تعتبر من اللباس الكامل والأصيل والموروث عن الآباء والأجداد، كدليل على حرصه على تسليم العروس لعريسها برداء الوجاهة، وكإشارة منه لمكانة العروس وأهميتها، والتأكيد على رضاه عن ذلك الزواج، إلا أن السبب الحقيقي لهذه العادة مغاير تماماً. عباءة الخال أو العم كان هدفها التودد لهما بمبلغ مالي كي يأذنا للعروس بالذهاب مع عريسها. يقال أن الخال أو العم كانا في الغالب يتنازلان عن مطلبهما المالي، إلا أن ا...