لحظة اعتراف بطولية

لشد ما تربكني ذاكرتي التي لم تفلح قط في رتق ثقوب بعثتها وطأة أفعال وكلمات يدوي صداها أحياناً في ثنايا تلك الذاكرة حيث ينتشر رماد الوجع مهما عبرت بنفسها إلى مساحات الفرح على مدى السنين.

بعيداً عن عالم المثاليات، فإن قدم الزمان، وعظم البطولة الأخلاقية والنفسية لتوديع ما مضى والقفز نحو الحاضر والمستقبل، ليسا كفيلين بالنسيان، قد يكونا كفيلين بالعفو والغفران.

في حكمة ناضجة تزور المتألم متأخراً، لا بد له أن يدرك البون الشاسع الذي يفصل بين العفو والغفران، والنسيان، ففي لحظة يوريكية عقلانية بعيدة عن روح الانفعال التي غيرت مكانة من آلمه في ذاكرته، والتي انتقلت بمن آلمه من واجهة الذاكرة إلى الخلف في ترتيب الذكريات، سيكتشف بأنه ما نسيان على الإطلاق بالرغم من تداعي حجم ألمه بفعل قلبه لتلك الصفحة من حياته أو حتى تمزيقها، فقد تنبعث في يوم بعيد ما تلك الآلام من جديد، ويتسرب وميضها في ثقوب الذاكرة ولو لثوانٍ معدودات، وسيكتشف بأن العفو والغفران لا موضع محدد لهما؛ فهما مباحان للجميع، وهما أيضاً سبيله للحرية من ألمه وطريقه للمستقبل الذي لا يُبلغ إلا بقلب سليم وروح صامدة، وبأن المستقبل لا يعني بشيء محو الذاكرة ودفن التاريخ، فالرصاصة التي أصابته؛ جرحته بالفعل إن لم تكن قد قتلته.

وفي لحظة يوريكية عقلانية أخرى، سيكتشف بأن جروحه القديمة ستصبح يوماً علامات مجد، ومصدر شفاء له وللآخرين من حوله في دليل على تلك القوة التي تدرك من يرهن نفسه للعلياء وتلملم جروح روحه، وبأن من سبب له جروحه ليس ملائكياً، وقد تكون جروحه الخاصة التي تنهش قلبه هي ما دفعه للمبادرة بالإساءة دون أي وجه حق، ودون إدراك منه لحجم الألم الذي خلفته إساءته ولا لمعنى التسامح الذي وهب له كفرصة ثانية، لا يملك - وهو الصغير في نفسه - القدرة على شكرها وتأدية حقها، وبأنه ما من إنسان قادر على تغيير الآخرين، وما من إنسان مخول بذلك.

كما هي تجارب الإنسان وتعاملاته تأتيه بشظايا الحكمة على حين غرة، فهي كذلك آلامه وجروحه؛ فمن رحم الألم تولد الحكمة ويورق القلب وتزهر الروح.

Comments

Popular Posts