الرؤيا والأحلام والحقيقة
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إجابة لسؤال لعمر بن الخطاب
رضي الله عنه، بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَالِسٌ
مَعَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: إنِّي سَائِلُكُمْ
عَنْ خِصَالٍ فَأَخْبِرُونِي بِهَا: أَخْبِرُونِي عَنْ الرَّجُلِ بَيْنَمَا هُوَ
يَذْكُرُ الشَّيْءَ إذْ نَسِيَهُ، وَعَنْ الرَّجُلِ يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ
يَلْقَهُ وَعَنْ الرُّؤْيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا حَقٌّ وَالْأُخْرَى أَضْغَاثٌ،
وَعَنْ سَاعَةٍ مِنْ اللَّيْلِ لَيْسَ أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ فِيهَا مُرَوَّعٌ
وَعَنْ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ مَعَ الْفَجْرِ فَسَكَتَ الْقَوْمُ فَقَالَ
:وَلَا أَنْتَ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ فَقَالَ بَلَى وَاَللَّهِ إنَّ عِنْدِي مِنْ
ذَلِكَ لَعِلْمًا: أَمَّا الرَّجُلُ بَيْنَمَا هُوَ يَذْكُرُ الشَّيْءَ إذْ
نَسِيَهُ فَإِنَّ عَلَى الْقَلْبِ طَخَاءً كَطَخَاءِ الْقَمَرِ فَإِذَا سُرِّيَ
عَنْهُ ذَكَرَ، وَإِذَا أُعِيدَ عَلَيْهِ نَسِيَ وَغَفَلَ. وَأَمَّا الرَّجُلُ
يُحِبُّ الرَّجُلَ وَلَمْ يَلْقَهُ فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ أَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ،
فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ، وَأَمَّا
الرُّؤْيَتَانِ إنَّ إحْدَاهُمَا حَقٌّ وَالْأُخْرَى أَضْغَاثٌ، فَإِنَّ فِي ابْنِ
آدَمَ رُوحَيْنِ، فَإِذَا نَامَ خَرَجَتْ رُوحٌ فَأَتَتْ الْحَمِيمَ وَالصَّدِيقَ
وَالْبَعِيدَ وَالْقَرِيبَ وَالْعَدُوَّ فَمَا كَانَ مِنْهَا فِي مَلَكُوتِ
السَّمَوَاتِ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْهَوَاءِ
فَهِيَ الْأَضْغَاثُ، وَأَمَّا الرُّوحُ الْأُخْرَى فَلِلنَّفَسِ وَالْقَلْبِ.
وَأَمَّا السَّاعَةُ مِنْ اللَّيْلِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ
فِيهَا مُرَوَّعٌ فَإِنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي يَرْتَفِعُ فِيهَا الْبَحْرُ
يَسْتَأْذِنُ فِي تَغْرِيقِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَتُحِسُّهُ الْأَرْوَاحُ
فَتَرْتَاعُ لِذَلِكَ، وَأَمَّا الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ مَعَ الْفَجْرِ إذَا طَلَعَ
خَرَجَتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ حَرَّكَتْ الْأَشْجَارَ فِي الْجَنَّةِ
فَهِيَ الرَّائِحَةُ.
من هنا فكل إنسان به روحين أو لعلنا نقول أنهما روح ونفس، أما
الروح فأمرها عند ربي لا نعرف عنها إلا القليل وهي كما وصفها علي بن أبي طالب رضي
الله عنه للنفس والقلب، أي أنها مثل الكهرباء هي للتنفس ولحركة دقات القلب فمتى
خرجت الروح من الجسد مات الإنسان، أما النفْس (بتسكين الفاء) فهي مخلوق شفاف داخل
الإنسان تعطي نفس شكل الجسد ولكنها من فصيلة الجن وهي خرساء، إلا مما يسمى حديث
النفس غير المسموع، فمتى ما نام الإنسان خرجت هذه النفس البشرية الشبيهة بالجن
وأول ما تفعله بالليل أن تسافر عبر السموات السبع حتى تصل إلى مادون العرش فإن
كانت طاهرة سجدت تحت عرش خالقها، وإن كانت نجسة أو على جنابة تنحت وسجدت بالقرب
مما هو تحت العرش، حركة النفس خلال دقائق معدودة تعرج كل ليلة وتعود، فحين تعبر
المجالات الجوية للسموات السبع يكون فيها أصدقاء وأجداد وأقارب قد يصادفونها، فإذا
صادفها أحد من معارفها أخبرها روح ذلك القريب أو الصديق أو الجد أو العم بأخبارها
المستقبلية التي تداولها أهل السماء من الأرواح الموتى (ولكنهم أحياء عند ربهم
يرزقون) فتأتي النفس ومعها أخبار مهمة إن خير فهي بشائر، وإن شر فهي تحذيرات، وهي
ما رمز لها علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال (فَإِذَا نَامَ خَرَجَتْ رُوحٌ
فَأَتَتْ الْحَمِيمَ وَالصَّدِيقَ وَالْبَعِيدَ وَالْقَرِيبَ وَالْعَدُوَّ فَمَا
كَانَ مِنْهَا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) أما ما
هو في مجال الأرض فهي الأضغاث الأحلام، حين تعود النفس من هيمانها بعالمها من
الأنفس البشرية تصادف وتتحدث وتناقش وتخاصم فهي ما نسميه الحلم وهو الأحداث التي
حدثت مع نفسك في لحظات نومك أو في لحظات هيامها بعالمها الخاص مع الأنفس.
ولكنها في الوقت الذي يريد الإنسان أن يصحو بتوقيت أو حتى مصادفة
فإنها تحضر من أي موقع في الكون خلال ثوان معدودات، وما إن تعود حتى تفرغ كل
الأحداث التي واجهتها بغيابها في دماغ الإنسان فهي خرساء لا تتحدث مع جسدها وإنما
تفرغ معلوماتها كما تفرغ معلومات السي دي بالكمبيوتر أو في ملف خاص.
فما أن يصحو الإنسان حتى يبدأ يتعامل مع كم هائل من
المعلومات المخزنة للتو في ذاكرته من قبل نفسه وفجأة أدخلتها في رأسه فيبدأ كمن
يقرأ أو يتذكر ويقص قصة طويلة تدل على ما قامت به النفس من جولة طويلة عبر ملايين
السنوات الضوئية بينما هو قد لا يتجاوز نومه مجموعة من الدقائق.
نعود إلى الفرق بين الرؤيا والحلم، أما الرؤيا تأتي من البشائر
التي سمعتها النفس البشرية أثناء مرورها بالسموات من قبل أرواح الموتى من الأصدقاء
والأقارب مما يبشرون بها أو يحذرونه من أقدار نزلت، فقد يجتهد بالدعاء فتزول عنه
أخطارها. أما الحلم والأضغاث فهي أحداث النفس إبان مسيرتها الليلية مع الأنفس
البشرية الأخرى فالكوابيس مع أنفس عدوة شريرة، والأحلام الممتعة مع أنفس صديقة
ومحبة، وتأتي الأحداث على شكل صورة مرسومة بعناية وبالألوان، فتكون الرؤيا هي أخبار
أرواح البشر الموتى في السموات وهم في حياة البرزخ يبلغون بها الأنفس الحية التي
تمر بهم.
ولعلنا نتبين كيف للموتى أن يعرفوا أخبار البشر في الأرض، من قصة
يونس العجيبة نستدل باستدلالات كثيرة، فقد اقترع من في السفينة لكي يخففوا من
حملها كي لا تغرق فوقعت القرعة على ذي النون (يونس) عليه السلام، فألقوا به في
البحر المتوسط فالتقمه الحوت وغاص به حتى سمع أهل السماء صوت بطن الحوت وهو يمخر
بحصى قاع البحر، فصاح يونس صيحته المشهورة وهو في بطن الحوت أن لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين، فصاح أهل السموات يارب هذا عبدك يونس، فقال الله
سبحانه (فلولا أن كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) نستدل من هذه
القصة أن أحداث الأرض وما يحدث لكل نسمة من البشر في الأرض يعرض على أهل السموات
الأحياء من الملائكة ومما لا نعلم ولا يعلمهم إلا الله ومعروف أن الملائكة يستغفرون
لأهل الأرض، ومن الأموات من البشر ماذا يحدث لكل إنسان على حدة من أحداث وبشكل
فوري وأسرع وأكبر من الصورة المصغرة لتلفزيونات الأرض البائسة لأن تلك من خلق رب
العالمين، فيستمع أهل السماء للأخبار الحادثة فورياً كما يعلمون بالأخبار القادمة
في المستقبل لكل فرد من البشر على وجه الأرض، وهناك يدور حديث كثير في السموات
ومنها السماء الدنيا عن أخبار الأرض وخاصة المستقبلية، مما يجعل الشياطين والجن
والسحرة والعرافين يعملون قبيل البعثة المحمدية على استراق السمع فيجلسون على
مقاعد يسترقون منها السمع، ثم يعودون إلى العراف ويقولون النزر اليسير مما
استطاعوا أن يسترقوا السمع حياله، من هنا فالأنفس التي تمر صاعدة إلى العرش للسجود
تعلم من الأخبار في حالة توفيق الله لها من أحبائها خيراً أو شراً أكثر بكثير مما
يسترقه الشياطين ومردة الجن.
د. صالح السعدون
Comments
Post a Comment