Skip to main content

الأردنيون يعشقون الحياة لكنهم يعشقون المظاهر أكثر

بعيداً عن أن السفر يعد من الأمور الممتعة خاصة إذا كانت غايته الترفيه والسياحة، إلا أن القيمة الحقيقية للسفر عبر الدول تكمن في إخراج الناس من الفقاعة الثقافية التي يحبسون أنفسهم داخلها؛ فالسفر يعزز الانفتاح على حضارات وثقافات ومجتمعات وطبائع وحتى أطعمة جديدة، كما أنه يغير الشخصية ويدفع للتعرف بشكل أكبر على الذات وما يستهويها ويستثيرها، مثلما يدفع أيضاً للتعرف على الآخرين، وللتساؤل والنقد والتقييم بعد المقارنة بين الدولة الأم وشعبها والدولة محل الزيارة وشعبها.

من واقع تجارب سفر إلى خارج الأردن، لم أتمكن سوى من التأكد من حقيقة أن الحياة ليست معقدة، بل نحن الأردنيون، المعقدون، لا ننظر لأبعد من احتياجاتنا الآنية، ولا نميز الفرق بين ما نحتاجه حقاً وما نريده. مقاييسنا خاطئة وعقولنا مقلوبة؛ لا نؤمن بالبساطة، ولا نستطيع العيش دون المظاهر التي نعشقها حد التقديس، ودون الأحكام التعسفية الفوقية والمتسرعة التي نبرع بها، معتقدين حد اليقين بأسباب للسعادة والرفاهية لا تمت لها بصلة، ومنغمسين حد الغرق بالقشور الاجتماعية التي ابتدعناها في مخيلاتنا وطموحاتنا الفاسدة التي نتجت عن شعور عفوي مرتبط بشكل وثيق بالشعور والسلوك الجمعي الناتج بدوره عن التربية والبيئة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، والتي أفرزت أشكالاً مرضية مزمنة تتخطى الحدود المعقولة.

في الدول الكبرى، يقل عموماً التعلق بالمظاهر لينحصر أحياناً بأقليات الأثرياء والمشاهير من المجالات المختلفة؛ ذلك أن تطور هذه الدول وتطور فكرها وبناها التحتية ومرافقها العامة المهيأة والمتاحة للجميع ودور مؤسساتها المساند للفرد ينعكس إيجاباً عليه من حيث تطوره ونضجه الفكري الذي ينعكس على رغباته وتوجهاته وميوله وسلوكه، ومن حيث حصوله على أبسط حقوقه وبالتالي تسيير تفاصيل حياته اليومية بسهولة وبنظام واضح وصارم يلتزم به الجميع.

من يخرج من بوتقته التي ولد ونشأ وترعرع فيها، سيرى البون الشاسع بين المجتمعات الخارجية التي قلما تصادف في شوارعها مركبات فارهة تفغر لها الأفواه دهشةً وتتساءل العقول من أين لأصحابها هذا؛ حيث نظام النقل العام اللائق والممتد لكافة المناطق ليرتاده الجميع، والتي لا حرج فيها من التحدث باللغة الأم فقط وغيرها الكثير، وبين مجتمعه المحلي الذي يتباهى أفراده على اختلاف أطيافهم ودخولهم بالميزات والمقتنيات الشخصية من هذه المركبات الفارهة، وإلى جانبها البيوت الفاخرة، والثياب الباهظة، وبطاقات الائتمان، والألقاب، والانتماءات الاجتماعية والعائلية، فضلاً عن تباهيهم بقراءة الكتب على الملأ في فاردة إلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتحدث باللغة الإنجليزية وسط أناس ينطقون العربية في عنصرية جديدة على اعتبار أن إتقان اللغة الأم فقط – العربية - يدخل في إطار العار كما هو استخدام مواصلات النقل العام.

كل هذه الأشكال المرضية، ما هو إلا انعكاس جلي لدور المؤسسات الرسمية الهزيل وأدائها الضعيف من مؤسسات تعليمية وتربوية وخدمية عامة وغيرها، وهو الأمر الذي يدفع الفرد للاعتماد على نفسه وإظهارها بوسائله وأساليبه الخاصة التي غالباً ما تكون نتاج فكره المغلوط والملووث.

نهايته، نحن أبعد ما نكون عن الحياة التي نعقشها؛ فالحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان باللحظة بكل ما فيها بعيداً عن الماديات والسطحيات والكماليات التي تتسبب في اغتراب كل من ينجرف معها عن ذاته، وفي تكبيله بما تفرضه عليه شخصيته الزائفة التي تصنعها حياته الزائفة، فتجلد روحه حد الموت. هذا الشعور لا يمكن بلوغه سوى بالإدراك التام للمعنى العميق للحياة، وللقيمة الفعلية لغير الماديات، ولأسباب ومسببات السعادة الحقة على وجه هذه الحياة، علماً بأن التخلي عن الماديات يعني استرداد الفرد لحريته وسيادته على نفسه بعد التحرر من قيود المظاهر الزائفة والعيش بوهم المقام العالي الذي يشكل اليوم قمة الأحلام والطموحات.

Comments

Popular posts from this blog

119 كلمة تختزل الشارع الأردني

اللهجة هي لغة الإنسان المحكية التي جُبِل عليها فاعتادها، والتي تنتمي المفردات فيها لبيئة جغرافية أو اجتماعية محددة، فتميز أهلها، وهي تعبر عن تفاصيل وأحوال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. على الرغم من ثبات اللهجة، إلا أن مفرداتها التي لا يمكن إسقاطها أو إنكارها، قد تتبدل وتتغير من جيل إلى آخر حسب مستجدات الواقع المعاش وتأثير الزمان والبيئة المكانية والاجتماعية. وتتفرد اللهجة المحلية في الأردن بالكثير من الكلمات والمفردات والتعبيرات والتراكيب التي يتم تداولها في الشارع والمنزل والعمل وبين الأصدقاء والمعارف، وذلك على الرغم من الاشتراك في العديد منها مع لهجات الدول القريبة حدودياً. تالياً أهم 119 كلمة تختزل الشارع الأردني وتعبر عن واقعه: 1.     نشمي/ة: صفة تطلق على من به من الصفات الحميدة الكثير، وتتمثل فيه قيم الشهامة والشجاعة والإقدام وعمل الخير وغيرها. تكاد تكون حكراً على الأردنيين من الذكور والإناث.   2.     هلا عمي: مرادف لرد التحية أو رد الشكر. 3.      لغة الدواوين: اللغة المتداولة بين الشباب من الجنسين، ...

شركة كيربي الأردن وتسويقها المتواضع التائه بين النظرية والتطبيق

بعيداً عما تسوقه شركة كيربي للأنظمة المتعددة للتكنولوجيا ووحدتها لتحليل وتنقية المياه، فإن أول ما يتبادر للأذهان حالياً عند سماع اسمها هو مدى صعوبة التسويق عبر الهاتف وتحقيق الأهداف التسويقية المرجوة باعتماده كأسلوب راسخ، إلى جانب مدى عدم قدرة هذه الشركة على تطوير استراتيجيتها التسويقية وصياغة أخرى عصرية وفعالة تتناسب مع حجم الطلب والاحتياج الحقيقي للمستهلكين، وتستهدف الزبائن المحتملين والمهتمين فعلياً. منذ ما يزيد عن 5 سنوات على أدنى تقدير، من منا لم يستقبل - وما زال - دورياً على خط هاتفه المنزلي الأرضي مكالمة من أحد مسوقي شركة كيربي لأخذ موعد لزيارة منزلية من أجل استعراض أحد منتجات الشركة من أجهزة تحليل وتنقية المياه. على الأغلب لا أحد لم يحظ بفرصة استقبال هذه المكالمة التي جرت العادة على إنهائها بتذكير المسوق المتصل بأنه سبق وأن قام بزيارة مستقبل المكالمة بعد عدد اتصالات لا يحصى، وبأن المستقبل لم يرغب حينها ولن يرغب في أي وقت لاحق بشراء المنتج. الحقيقة، إن شركة كيربي تمتلك فريقاً تسويقياً يتمتع بالصبر والمثابرة، وهما صفتان من أولويات التسويق، إلا أنه لا يتمتع بالقدرة على ا...

عباءة الخال أو العم تراث بلا مجد

بالرغم من التحولات الكبيرة التي طرأت على حفلات الأعراس والتي فرضتها الرغبة بمواكبة الحداثة، ما زال الكثير من الناس يصرون على المحافظة على روح الموروث الشعبي في أعراسهم عبر اتباع بعض العادات والتقاليد القديمة، وهذا أمر جيد لا يعترض عليه أحد، لكن ما يجب الاعتراض عليه هو مجموعة العادات والتقاليد المقيتة في مضمونها كعادة ارتداء العروس عباءة خالها أو عمها. لمن لا تعلم حقيقة وقصة عادة ارتداء عباءة (عباية/ عباة/ بشت) الخال أو العم، فبقراءة سريعة لها ستجد أنها مجد كاذب قصد به جلب منفعة للخال أو العم؛ ذلك أن موافقة الخال والعم كانت مطلوبة قديماً لمباركة الزواج، فيقوم أحدهما بإلباس العروس عباءته التي تعتبر من اللباس الكامل والأصيل والموروث عن الآباء والأجداد، كدليل على حرصه على تسليم العروس لعريسها برداء الوجاهة، وكإشارة منه لمكانة العروس وأهميتها، والتأكيد على رضاه عن ذلك الزواج، إلا أن السبب الحقيقي لهذه العادة مغاير تماماً. عباءة الخال أو العم كان هدفها التودد لهما بمبلغ مالي كي يأذنا للعروس بالذهاب مع عريسها. يقال أن الخال أو العم كانا في الغالب يتنازلان عن مطلبهما المالي، إلا أن ا...