كأس الحب وفوضى العلاقات

الحب لا يحتاج لحديث طويل، لذلك مع زبدة الكلام أبتديه: "إن مهمتك ليست البحث عن الحب، بل البحث بداخلك عن تلك الجدران والحواجز التي تبقيه بعيداً عن روحك". ~ جلال الدين الرومي. هذه الكلمات البسيطة، هي أصدق ما قيل عن معضلات العثور على الحب الذي ليس منا من لا يتوق إليه مع حبيب يومض في قلبه كالبرق الخاطف تارة، وأخرى يعزف على أوتاره ترنيمة السلام والإنسان، ليعيد تشكيل الحياة وبعث الروح بكل تجلياتها.

ليكون للإنسان نصيب في حياته من هذا المس من الحب، فإنه لا ينقصه سوى التخلص من الأغلال التي يكبل بها قلبه وعقله وروحه، والتي تبقيه أسيراً لكل موانع الحب الحقيقي الأصيل الذي لم يعرفه إلا قلة ممن استطاعوا عزل حاجاتهم الحسية والجسدية عن قضية الحب، فانغمسوا فيها من منظور إنساني وبمقصد نبيل، فدخلوا في سر الحب وصاروا مدعوين إلى الحرية التي يولدها الاتحاد البعيد كل البعد عن الخضوع والشروط والتصورات المنبثقة من الرحم العفن الخرب لخرافات الحب التي تدعي بأن الحب عاطفة غير منطقية، وبأن هذه العاطفة لا تعترف بالدرجات، وبأنها آسرة ولا يمكن الخروج من دائرتها إن كانت خاطئة أو ملتبسة، وبأن ألمها في حالة الفشل لا يماثله ألم، وبأنها تتطلب من أجل الوصول لذروتها العطاء بنفس المقدار، والتشابه والتقارب إلى حد التماهي، ما يدفع الإنسان للاعتقاد حتى الإيمان بأن هناك دائماً من هو أكثر ملاءمة له من شريكه المحتمل أو الحالي وبأن رحلة بحثه عن الشريك المثالي ما زالت مستمرة.

إن من يدخل سر الحب، فلسوف يدرك بأنه يلامس بالمقام الأول الذات والطبيعة الإنسانية المجبولة على المحبة، والقائمة على رباعية محبوكة من الإرادة المؤدية للتواصل، والتواصل المؤدي للتفاهم، والتأقلم المؤدي للتقبل، والتقبل المؤدي للانخراط الإيجابي مع الآخر بسوية تعزز الثقة والمودة والانفتاح الصادق والانصهار بثبات على طريق الوقوف في الحب.

وعلى عكس ذلك، فإن من لا يدخل هذا السر، سيواصل التخبط والتيه في مدارات التردد والحرج والعصبية والخوف من الشعور بالانطلاق والانتقال من الحياة العادية إلى عالم الحب ومن منطقة المنعة والحصانة الفردية إلى عالم المشاركة الكامل حتى نقاط الضعف مكشوفة الأستار والمرئية بعمق، وسيوصم بهذه السمات التي تتكفل بتثبيط عناصر الرباعية من بعد الانجذاب الأولي، والتي قد تظهره بشكل خاطئ كإنسان غير ناضج وغير مسؤول وغير كفؤ وبالتالي غير مستحق للحب وغير أهل له، بالرغم من كون هذه الصفات قد تعد في بعض الأحيان من علامات الحب.

وللدخول في سر الحب، ليس هناك سوى مطلب واحد وأساسي، به يصل الإنسان لحب حياته المنشود؛ إنه امتلاك الجرأة لتلمس الذات والذوات الأخرى والتعرف إليها، ولتشكيل التيار لا السير معه.

إن تحقّق هذا المطلب، فلا شك في بلوغ النضج العاطفي الذي يدفع الإنسان للتخلي عن التمركز حول ذاته، ولاختبار مشاعره ومشاعر الآخر والتأكد منها، كما يدفعه لإطلاق العنان لهذه المشاعر، ومن ثم إظهارها كما يليق بها وإلى جانبها ضعفه الإنساني فترتد عليه سعادة مرتبطة بألم الشوق الذي يختلف تماماً عن الحزن، كل ذلك بعيداً عن الصور الذهنية والتوقعات الخيالية والأنانية التي عادة ما يتوق الإنسان إليها كحقيقة بالرغم من كونها محض خيال أو حب لأجل الحب فقط.

وتحقيقاً لمطلب سر الحب الذي لا ينكر رغبة الجسد كوسيلة أخيرة للتعبير عن هذا الحب، فإن محاولة سبر أغوار القلوب والأرواح ضمن تجربة إنسانية بحد ذاتها شرف؛ ذلك أنها الطريق لفك رموز السر والنجاح في الاختيار والحكم والإقدام دون خوف من فشل أو وداع أو ألم.

وإذ لا يجدر بالحب الذي ولدنا به إلا أن يكون عميقاً، وإذ أن الحياة أقصر مما نتمنى، فإن النجاح في قيادة القلب وقيادة المشاعر التي يولدها انجذاب متعقل وواع تجاه الآخر مطلب يستدعي قهر الخوف الذي تعلمناه، فمن ينجح في ذلك ينجح في حياته؛ ذلك أن القلب بإيقاعه المنتظم يتحكم بإيقاع الجسد كاملاً حتى العقل، فالقلب له نظامه العصبي ومجاله الكهرطيسي الخاص به، وهو مستودع العقل الذي يقوم بتوجيه الدماغ لأداء مهامه، كما أنه وسيلة نعقل بها وندرك من خلالها، الأمر الذي يتحدث به العلماء اليوم بعد أن كان سبحانه وتعالى قد أشار إليه في سورتي الحج والأعراف.

في نهاية المطاف، وحتى يكون الحب فعلياً وحقيقياً، ليس له أن يكون جنونياً بالمعنى الحرفي للكلمة، بل أن يكون أولاً، وأن يكون في اتحاد يجمع نبضات القلب مع ذبذبات الدماغ باتجاه ثابت واحد مع شخص واحد في زمان واحد ليحقق قمة الإنسانية وشفافية العاطفة والاكتفاء دون أية أعذار وانهزامات. حتى يكون الحب فعلياً وحقيقياً، ليس له أن يصهر أحد الحبيبين بالآخر، بل أن يحافظ على المسافة الفاصلة بين الاثنين للحفاظ على كيانين متقاربين في رحلة يلتزم كل منهما ضمنها تجاه الآخر عاطفياً وأخلاقيا وسلوكياً حتى في أحلك الأوقات.

كذلك، فإنه ليس لنا أن نعثر على الحبيب "المثالي"، بل الحبيب الذي نتعلم رؤيته كاملاً بالرغم من نقصه، كما نتعلم أن نرعى وننمي ما بيننا وبينه من انجذاب وعاطفة وتفاهم لنصبح مستحقين له دون متطلبات وشروط لا علاقة لها بجوهر الأمر. مثلما هو الحب شيء تشعر به، فهو أيضاً شيء تفعله.



Comments

Popular Posts