Skip to main content

لا ينفع الميت كثرة المعزين وقد مات وحيداً

عندما تصبح العزلة الاجتماعية - بغض النظر عن الأسباب التي دفعت لاعتناقها – عادة، فإنها تتحول من فعل يمكن للإنسان تركه متى شاء إلى سلوك يومي أشبه بالإدمان؛ يجلب اللذة ويدعو إلى تكراره.

صحيح أنه بين الحين والآخر يشعر الإنسان بالرغبة في الانعزال عن الجو العام للاختلاء بالنفس خاصة في أوقات الحزن والإحباط والفشل والانكسار، وهذا أمر طبيعي، لكن المشكلة تكمن حين تصبح هذه الرغبة حاجة ملحة تكبر في كل يوم لتتحول لنوبات عارمة من القلق، والحزن على الماضي ونسيان الحاضر والتشاؤم من المستقبل، وبالتالي الاكتئاب وكره الحياة، ما فات منها وما يمر وما سيأتي.

من المفارقات العجيبة، أننا بالعادة نعيش جل حياتنا غير مدركين لحقيقة أن أغلب الناس ليس لديهم القدرة على مواجهة مشكلاتهم المعنوية والنفسية بأنفسهم ودون مؤازرة من الغير، وبأن الانعزال الاجتماعي المنتظم يثير التبلد غير المبرر في النفس، كما يعزز مشاعر الانهزامية المؤدية للوقوع في شرك الوساوس المؤدي بدوره للوقوع في شرك أكبر هو الانفصال التام عن النفس والمحيط الأقرب والعالم.

إن الإفراط في التقوقع حول النفس في شرنقة محكمة النسج، ما هو إلا انعكاس لأفكارنا وتصوراتنا السلبية حول ذواتنا قبل كل شيء. إن غيرنا الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى الوقائع التي تمر بنا، فلا بد للمجريات أن تتغير، وإن واصلنا أحكامنا المجحفة والتعسفية التي نطلقها على أنفسنا وعلى ما يحدث لنا وعلى التجارب المختلفة حتى المستقبلية منها، سنظل نرتطم بالعوائق التي نضع أنفسنا أمامها بأيدينا وبمحض إرادتنا.

إن السبيل الوحيد لتخطي هذه المرحلة الحرجة من حياة الإنسان، هو التحلي بخصلة الشجاعة، الشجاعة للإقرار بالحقيقة، والشجاعة للاعتراف بالضعف، والشجاعة للانتقال من طور السلبية إلى طور الإيجابية، والشجاعة للسير قدماً في هذا الانتقال. كل ما على الإنسان فعله أن يستجمع قواه في لحظة شجاعة لتتشكل إرادته، فيخرج من شرنقته وينطلق في الحياة دون أن يفوت إدراك الهدف من رحلته فيها، لا أن يواصل المسير نحو اللاشيء.

كلنا نسير على دروب متعرجة، لكن اللبيب منا هو من يدرك غاية الحياة، ويمتلك المبادرة لخوضها بروح حرة ونفس خالية من العقد التي نعقدها بأنفسنا، فيعيش الحياة الحقيقية، يضع نفسه في قلبها لا على هامشها، ويجد الراحة والسعادة في الأماكن والأشياء غير المتوقعة.

نحن قوم إذا ضاقت بنا الدنيا اتسعت لنا السماء، لكننا نزاعون للخوف واليأس، ميالون للملل ونكران النعم مصداقاً لقوله تعالى في سورة المعارج: "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً"، ولقوله في سورة هود: "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ"، وقوله في سورة إبراهيم: "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ".

خلاصة القول: نحن قوم لا نحيا الحياة، بل نموت فيها ونحن على قيد الحياة، نحن قوم نسير على غير هدى وإدراك، وإن أدركنا، تغافلنا عن المعنى وامتنعنا عن فعل الحياة الحقة وإتقانها بفن.


أما حكمة القول التي لن تبور: "إن الكريم إذا نابته نائبة لم يبدُ منه على علاتِه الهلعُ، لا تكره المكروه عند نزوله إن المكاره لم تزل متباينة، كم من نعمة لم تستقل بشكرها لله في طي المكاره كامنة"، و"محن الفتى يُخبِرن عن فضل الفتى كالنار مخبرة بفضل العنبر"، و"لو رفع الله عنا البلاء لم ندرِ ما خطرُ العافية"، و"ما شدةٌ يوماً وإن جَلّ خطبها بنازلة إلا سيتبعها يسر".

Comments

Popular posts from this blog

119 كلمة تختزل الشارع الأردني

اللهجة هي لغة الإنسان المحكية التي جُبِل عليها فاعتادها، والتي تنتمي المفردات فيها لبيئة جغرافية أو اجتماعية محددة، فتميز أهلها، وهي تعبر عن تفاصيل وأحوال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. على الرغم من ثبات اللهجة، إلا أن مفرداتها التي لا يمكن إسقاطها أو إنكارها، قد تتبدل وتتغير من جيل إلى آخر حسب مستجدات الواقع المعاش وتأثير الزمان والبيئة المكانية والاجتماعية. وتتفرد اللهجة المحلية في الأردن بالكثير من الكلمات والمفردات والتعبيرات والتراكيب التي يتم تداولها في الشارع والمنزل والعمل وبين الأصدقاء والمعارف، وذلك على الرغم من الاشتراك في العديد منها مع لهجات الدول القريبة حدودياً. تالياً أهم 119 كلمة تختزل الشارع الأردني وتعبر عن واقعه: 1.     نشمي/ة: صفة تطلق على من به من الصفات الحميدة الكثير، وتتمثل فيه قيم الشهامة والشجاعة والإقدام وعمل الخير وغيرها. تكاد تكون حكراً على الأردنيين من الذكور والإناث.   2.     هلا عمي: مرادف لرد التحية أو رد الشكر. 3.      لغة الدواوين: اللغة المتداولة بين الشباب من الجنسين، ...

شركة كيربي الأردن وتسويقها المتواضع التائه بين النظرية والتطبيق

بعيداً عما تسوقه شركة كيربي للأنظمة المتعددة للتكنولوجيا ووحدتها لتحليل وتنقية المياه، فإن أول ما يتبادر للأذهان حالياً عند سماع اسمها هو مدى صعوبة التسويق عبر الهاتف وتحقيق الأهداف التسويقية المرجوة باعتماده كأسلوب راسخ، إلى جانب مدى عدم قدرة هذه الشركة على تطوير استراتيجيتها التسويقية وصياغة أخرى عصرية وفعالة تتناسب مع حجم الطلب والاحتياج الحقيقي للمستهلكين، وتستهدف الزبائن المحتملين والمهتمين فعلياً. منذ ما يزيد عن 5 سنوات على أدنى تقدير، من منا لم يستقبل - وما زال - دورياً على خط هاتفه المنزلي الأرضي مكالمة من أحد مسوقي شركة كيربي لأخذ موعد لزيارة منزلية من أجل استعراض أحد منتجات الشركة من أجهزة تحليل وتنقية المياه. على الأغلب لا أحد لم يحظ بفرصة استقبال هذه المكالمة التي جرت العادة على إنهائها بتذكير المسوق المتصل بأنه سبق وأن قام بزيارة مستقبل المكالمة بعد عدد اتصالات لا يحصى، وبأن المستقبل لم يرغب حينها ولن يرغب في أي وقت لاحق بشراء المنتج. الحقيقة، إن شركة كيربي تمتلك فريقاً تسويقياً يتمتع بالصبر والمثابرة، وهما صفتان من أولويات التسويق، إلا أنه لا يتمتع بالقدرة على ا...

عباءة الخال أو العم تراث بلا مجد

بالرغم من التحولات الكبيرة التي طرأت على حفلات الأعراس والتي فرضتها الرغبة بمواكبة الحداثة، ما زال الكثير من الناس يصرون على المحافظة على روح الموروث الشعبي في أعراسهم عبر اتباع بعض العادات والتقاليد القديمة، وهذا أمر جيد لا يعترض عليه أحد، لكن ما يجب الاعتراض عليه هو مجموعة العادات والتقاليد المقيتة في مضمونها كعادة ارتداء العروس عباءة خالها أو عمها. لمن لا تعلم حقيقة وقصة عادة ارتداء عباءة (عباية/ عباة/ بشت) الخال أو العم، فبقراءة سريعة لها ستجد أنها مجد كاذب قصد به جلب منفعة للخال أو العم؛ ذلك أن موافقة الخال والعم كانت مطلوبة قديماً لمباركة الزواج، فيقوم أحدهما بإلباس العروس عباءته التي تعتبر من اللباس الكامل والأصيل والموروث عن الآباء والأجداد، كدليل على حرصه على تسليم العروس لعريسها برداء الوجاهة، وكإشارة منه لمكانة العروس وأهميتها، والتأكيد على رضاه عن ذلك الزواج، إلا أن السبب الحقيقي لهذه العادة مغاير تماماً. عباءة الخال أو العم كان هدفها التودد لهما بمبلغ مالي كي يأذنا للعروس بالذهاب مع عريسها. يقال أن الخال أو العم كانا في الغالب يتنازلان عن مطلبهما المالي، إلا أن ا...