الألم سر الإنسانية والوجود

ممتلئة هي الحياة بقلوب متعبة بتعب الأيام، مرتوية من نهر الآلام التي تأبى إلا السكنى في الأعماق. كلنا بنا ألم، لكن لكل منا حكاية.

فراق، ورحيل، وهجر، وفقد، ونقص، وذنوب، وغدر من الزمان وآخر من الخلان، وحاجة لأوطان وأخرى لبنين، أو أنه شعور بآلام الآخرين. اشتياق، وحنين، واحتياج، وأمنيات، وندم، واستسلام.

قد تختلف الحكايات، لكن النهايات تتوحد بتوحد الشعور الذي يخلفه ركام كل حكاية، إنها الآلام. تلك الآلام التي تتولد من وطأة السلب والضغط، فتأتي تعبيراً عن الاحتجاج على فقدان العدالة من وجهة نظر قاصرة وغير مدركة لأن حقيقة الحياة والوجود قائمة على الألم الإنساني.

ما أن ندرك هذه الحقيقة الحاضرة الغائبة، فإننا سندرك بأن هذا الألم الإنساني إما أن يصبح ألماً إيجابياً فيرفعنا في مقامات الإنسانية إلى الروحانية، وإما أن يصبح ألماً سلبياً فيهوي بنا إلى حضيض الشهوانية المادية، فإن أدركناه بإيجابية بلغنا الحقيقة المطلقة وسرنا على مدارج السلام، وإن لم نفعل، واصلنا تيهنا وعظم كربنا وغزانا الإحساس بالنقمة.

دون هذا الألم الذي يدفع تجاه المعرفة بنداء روحي، لن نصل أبداً إلى الحقيقة المطلقة التي من خلالها ندرك أن مفهوم العدل الإلهي يختلف تماماً عن مفهومه عند البشر، ودون هذا الألم لن نتجاوز سلبية الفراق والرحيل والهجر والفقد والنقص والذنب والغدر ولن نحط أبداً في مراسي الإيجابية، ذلك أننا لا نتخلص من العبودية للرغبة والتعلق بكل شيء. دون هذا الألم لن نشعر سوى بالامتلاء والكمال الذي يقضي على فرصتنا بأن ننشد الحقيقة ونسلك دربها.

إن هذا الألم هو ما يجعل الإنسان واعياً لحقيقة الوجود الإلهي وكماله من خلال دفعه لمعرفته ولمعرفة حقيقة عدله بمفهومها الإلهي الذي لم يجعل السعادة مطلقة بل جعلها نسبية، والذي منح أحدنا الصحة وأخذها من آخر لديه المال، أكرم أحدنا بالبنين وجاد على آخر بالرزق دون البنين، وهب أحدنا نعمة محبة شريك حياة وألهم آخر للنجاح العملي. إن الألم هو ما يفتح العقل على أبواب التفكر، ويحكم بوجود مدبر قدير وحكيم ورحيم، فيقطع الشك باليقين، ويهدي إلى الإيمان ويبقي الإنسان بداخلنا.

ما أن ندرك ذلك، فإننا سندرك حقيقة أن العدل الإلهي ثابت، وأن تجاوز التعاسة والشقاء لا يكون إلا بتجاوز الانغماس في سلبية الوجود الناتجة من النقص، وأن بلوغ السعادة لا يكون إلا بالسير على طريق تحقيق كمال الوجود الإلهي.

قال الله تعالى: (أفي الله شك فاطر السموات والأرض)، و(سنريهم آياتنا في الآفاق)، و(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد). وقديماً قيل: (ينعدم الألم متى تساوى الذهب مع الحجر)، فهل نعرف الله حق معرفته؟ وهل ندرك أنه أعدل من عدل وأكرم من أكرم؟ إن عرفنا تخلصنا من عبوديتنا وإن لم نعرف بقينا أسرى.

Comments

  1. This comment has been removed by a blog administrator.

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular Posts