Skip to main content

الألم سر الإنسانية والوجود

ممتلئة هي الحياة بقلوب متعبة بتعب الأيام، مرتوية من نهر الآلام التي تأبى إلا السكنى في الأعماق. كلنا بنا ألم، لكن لكل منا حكاية.

فراق، ورحيل، وهجر، وفقد، ونقص، وذنوب، وغدر من الزمان وآخر من الخلان، وحاجة لأوطان وأخرى لبنين، أو أنه شعور بآلام الآخرين. اشتياق، وحنين، واحتياج، وأمنيات، وندم، واستسلام.

قد تختلف الحكايات، لكن النهايات تتوحد بتوحد الشعور الذي يخلفه ركام كل حكاية، إنها الآلام. تلك الآلام التي تتولد من وطأة السلب والضغط، فتأتي تعبيراً عن الاحتجاج على فقدان العدالة من وجهة نظر قاصرة وغير مدركة لأن حقيقة الحياة والوجود قائمة على الألم الإنساني.

ما أن ندرك هذه الحقيقة الحاضرة الغائبة، فإننا سندرك بأن هذا الألم الإنساني إما أن يصبح ألماً إيجابياً فيرفعنا في مقامات الإنسانية إلى الروحانية، وإما أن يصبح ألماً سلبياً فيهوي بنا إلى حضيض الشهوانية المادية، فإن أدركناه بإيجابية بلغنا الحقيقة المطلقة وسرنا على مدارج السلام، وإن لم نفعل، واصلنا تيهنا وعظم كربنا وغزانا الإحساس بالنقمة.

دون هذا الألم الذي يدفع تجاه المعرفة بنداء روحي، لن نصل أبداً إلى الحقيقة المطلقة التي من خلالها ندرك أن مفهوم العدل الإلهي يختلف تماماً عن مفهومه عند البشر، ودون هذا الألم لن نتجاوز سلبية الفراق والرحيل والهجر والفقد والنقص والذنب والغدر ولن نحط أبداً في مراسي الإيجابية، ذلك أننا لا نتخلص من العبودية للرغبة والتعلق بكل شيء. دون هذا الألم لن نشعر سوى بالامتلاء والكمال الذي يقضي على فرصتنا بأن ننشد الحقيقة ونسلك دربها.

إن هذا الألم هو ما يجعل الإنسان واعياً لحقيقة الوجود الإلهي وكماله من خلال دفعه لمعرفته ولمعرفة حقيقة عدله بمفهومها الإلهي الذي لم يجعل السعادة مطلقة بل جعلها نسبية، والذي منح أحدنا الصحة وأخذها من آخر لديه المال، أكرم أحدنا بالبنين وجاد على آخر بالرزق دون البنين، وهب أحدنا نعمة محبة شريك حياة وألهم آخر للنجاح العملي. إن الألم هو ما يفتح العقل على أبواب التفكر، ويحكم بوجود مدبر قدير وحكيم ورحيم، فيقطع الشك باليقين، ويهدي إلى الإيمان ويبقي الإنسان بداخلنا.

ما أن ندرك ذلك، فإننا سندرك حقيقة أن العدل الإلهي ثابت، وأن تجاوز التعاسة والشقاء لا يكون إلا بتجاوز الانغماس في سلبية الوجود الناتجة من النقص، وأن بلوغ السعادة لا يكون إلا بالسير على طريق تحقيق كمال الوجود الإلهي.

قال الله تعالى: (أفي الله شك فاطر السموات والأرض)، و(سنريهم آياتنا في الآفاق)، و(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد). وقديماً قيل: (ينعدم الألم متى تساوى الذهب مع الحجر)، فهل نعرف الله حق معرفته؟ وهل ندرك أنه أعدل من عدل وأكرم من أكرم؟ إن عرفنا تخلصنا من عبوديتنا وإن لم نعرف بقينا أسرى.

Comments

  1. This comment has been removed by a blog administrator.

    ReplyDelete

Post a Comment

Popular posts from this blog

119 كلمة تختزل الشارع الأردني

اللهجة هي لغة الإنسان المحكية التي جُبِل عليها فاعتادها، والتي تنتمي المفردات فيها لبيئة جغرافية أو اجتماعية محددة، فتميز أهلها، وهي تعبر عن تفاصيل وأحوال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. على الرغم من ثبات اللهجة، إلا أن مفرداتها التي لا يمكن إسقاطها أو إنكارها، قد تتبدل وتتغير من جيل إلى آخر حسب مستجدات الواقع المعاش وتأثير الزمان والبيئة المكانية والاجتماعية. وتتفرد اللهجة المحلية في الأردن بالكثير من الكلمات والمفردات والتعبيرات والتراكيب التي يتم تداولها في الشارع والمنزل والعمل وبين الأصدقاء والمعارف، وذلك على الرغم من الاشتراك في العديد منها مع لهجات الدول القريبة حدودياً. تالياً أهم 119 كلمة تختزل الشارع الأردني وتعبر عن واقعه: 1.     نشمي/ة: صفة تطلق على من به من الصفات الحميدة الكثير، وتتمثل فيه قيم الشهامة والشجاعة والإقدام وعمل الخير وغيرها. تكاد تكون حكراً على الأردنيين من الذكور والإناث.   2.     هلا عمي: مرادف لرد التحية أو رد الشكر. 3.      لغة الدواوين: اللغة المتداولة بين الشباب من الجنسين، ...

شركة كيربي الأردن وتسويقها المتواضع التائه بين النظرية والتطبيق

بعيداً عما تسوقه شركة كيربي للأنظمة المتعددة للتكنولوجيا ووحدتها لتحليل وتنقية المياه، فإن أول ما يتبادر للأذهان حالياً عند سماع اسمها هو مدى صعوبة التسويق عبر الهاتف وتحقيق الأهداف التسويقية المرجوة باعتماده كأسلوب راسخ، إلى جانب مدى عدم قدرة هذه الشركة على تطوير استراتيجيتها التسويقية وصياغة أخرى عصرية وفعالة تتناسب مع حجم الطلب والاحتياج الحقيقي للمستهلكين، وتستهدف الزبائن المحتملين والمهتمين فعلياً. منذ ما يزيد عن 5 سنوات على أدنى تقدير، من منا لم يستقبل - وما زال - دورياً على خط هاتفه المنزلي الأرضي مكالمة من أحد مسوقي شركة كيربي لأخذ موعد لزيارة منزلية من أجل استعراض أحد منتجات الشركة من أجهزة تحليل وتنقية المياه. على الأغلب لا أحد لم يحظ بفرصة استقبال هذه المكالمة التي جرت العادة على إنهائها بتذكير المسوق المتصل بأنه سبق وأن قام بزيارة مستقبل المكالمة بعد عدد اتصالات لا يحصى، وبأن المستقبل لم يرغب حينها ولن يرغب في أي وقت لاحق بشراء المنتج. الحقيقة، إن شركة كيربي تمتلك فريقاً تسويقياً يتمتع بالصبر والمثابرة، وهما صفتان من أولويات التسويق، إلا أنه لا يتمتع بالقدرة على ا...

عباءة الخال أو العم تراث بلا مجد

بالرغم من التحولات الكبيرة التي طرأت على حفلات الأعراس والتي فرضتها الرغبة بمواكبة الحداثة، ما زال الكثير من الناس يصرون على المحافظة على روح الموروث الشعبي في أعراسهم عبر اتباع بعض العادات والتقاليد القديمة، وهذا أمر جيد لا يعترض عليه أحد، لكن ما يجب الاعتراض عليه هو مجموعة العادات والتقاليد المقيتة في مضمونها كعادة ارتداء العروس عباءة خالها أو عمها. لمن لا تعلم حقيقة وقصة عادة ارتداء عباءة (عباية/ عباة/ بشت) الخال أو العم، فبقراءة سريعة لها ستجد أنها مجد كاذب قصد به جلب منفعة للخال أو العم؛ ذلك أن موافقة الخال والعم كانت مطلوبة قديماً لمباركة الزواج، فيقوم أحدهما بإلباس العروس عباءته التي تعتبر من اللباس الكامل والأصيل والموروث عن الآباء والأجداد، كدليل على حرصه على تسليم العروس لعريسها برداء الوجاهة، وكإشارة منه لمكانة العروس وأهميتها، والتأكيد على رضاه عن ذلك الزواج، إلا أن السبب الحقيقي لهذه العادة مغاير تماماً. عباءة الخال أو العم كان هدفها التودد لهما بمبلغ مالي كي يأذنا للعروس بالذهاب مع عريسها. يقال أن الخال أو العم كانا في الغالب يتنازلان عن مطلبهما المالي، إلا أن ا...