المسكوت عنه خدش للحياء العام.. زوبعة البوسة أزمة هوية رسمية
دخل النقاش بين الأردنيين حول موضوع "البوسة التي حطمت المدينة
الفاضلة" يومه السابع، مثيراً جدلاً كبيراً حول تقاليد المجتمع المحافظة التي
لا تسمح بأي انحلال أخلاقي.
لكن، كالعادة، ولأننا شعب يعاني من العشوائية الأخلاقية، لم يتم التطرق
لمناقشة أخلاقيات مصور فيديو "البوسة" وانحلاله الأخلاقي الذي دفعه
للتطفل على الغير في المقام الأول، وللنظر للموضوع حسب أيدولوجيته وبنائه النفسي،
فتخير توثيق المشهد وفضح بطليه بعد تأويله بكيفية تظهره مطابقاً لما يعتقد أنه
الحق.
لا دفاعاً عن "البوسة" ولا هجوماً عليها؛ ما حدث ابتداءً من تصوير
ونشر المشهد، ومروراً باهتمام الأجهزة الأمنية به، وانتهاءً بضبط المركبة واعتقال
الشاب، ليس سوى تجسيد حقيقي لأزمة الهوية والتوجهات التي تعاني منها دولتنا والتي انعكست
على أبنائها. نحن بلا شك أمة هلامية بلا عنوان، اختلط لدينا الحابل بالنابل والحق
بالباطل والصواب بالخطأ، فضاعت أولوياتنا وحلت بدلاً عنها سفاسف الأمور. نحن أمة ليس لنا إلى النجاة سبيل.
دستورنا يقول أن الإسلام هو دين الدولة، كما أنه يقول أن المحاكم الشرعية
تطبق في قضائها أحكام الشرع الشريف، وتقول رسالة عمان أن رسالتنا إسلامية
عربية وسطية معتدلة، فيما يظهر علينا رئيس الوزراء الأفخم مطلع العام ليقول أن
الأردن دولة لا علمانية ولا دينية، بل دولة مدنية، ويتبعه مفوضنا السامي للأمم
المتحدة لحقوق الإنسان بالظهور علينا وفي فمه دعوة لجميع الدول من أجل
توفير الحماية القانونية للأزواج من مثليي الجنس ولأطفالهم، معتبراً أن حماية
العلاقات الجنسية المثلية مطلوب كجزء من حماية حقوق الإنسان.
أية تناقضات هذه؟ من جهة نسارع للحفاظ على "حرمة الطريق" ومعاقبة
أصحاب "البوسة الخادشة للحياء" والتي لم تتجاوز كونها سلوكاً فردياً مندفعاً، وذلك بالرغم من نفينا لصفة "الدينية" عن دولتنا علماً بأنه لا يوجد ما يسمى بالدولة المدنية، وبالرغم كذلك من احترامنا للمثلية على طريق تقديم الحماية لأصحابها مستقبلاً حسب التوقعات تحت اسم "زواج" علماً بأن المثلية خرافة يدافع عنها المثلييون وأنصارهم بحجج واهية، لكننا على الجهة الأخرى، لا
نلاحق المتطفلين على الغير ولا نعير انتباهاً للجرائم المتزايدة والمجرمين الحقيقيين، ولا نحارب الدعارة الفعلية في أوكارها كالنوادي الليلية والفنادق وغيرها.
إن هذه التناقضات هي الأساس، عندما لا تستطيع الدولة أن تخلق وتحافظ على
هوية محددة لها، وعندما لا تستطيع أن تحدد توجهاتها وأولوياتها على مختلف الأصعدة، هل هي علمانية أم دينية أم خليط
من العلمانية والدينية، محافظة أم متحررة، متسامحة أم متعصبة، محفزة أم مثبطة، منضبطة
أم عشوائية، قيمها راسخة أم متقلقلة، ديمقراطية أم قمعية، دولة حقوق أم دولة
قانون، فإنها لن تستطيع بناء أجيال متزنة وسليمة فكرياً ونفسياً وسلوكياً.
هذه التناقضات هي سبب ضياع الهوية الفردية والجمعية، وهي سبب خلق أجيال
جوفاء مسطحة، هائمة على وجهها، وغير قادرة على تحديد قيمها وانتماءاتها ومعتقداتها
الحقيقية حتى في أضيق حدودها بعيداً عن تأثير جماعتها ومحيطها المجتمعي أو الرسمي.
عندما تفشل الدولة في صناعة هويتها ورسم أخلاقيات ومعايير ثابتة لها، فإن الفشل
بالتأكيد سيكون النتيجة الحتمية التي ستواجهها عند عملها على تمكين أبنائها الذين
يفترض أن يتم الاستثمار بهم منذ نعومة أظفارهم وتهيئتهم مذ ذاك لصناعة هوياتهم
الشخصية القويمة باعتبارهم أساس المجتمع وقلبه النابض وقادة مسيرة البناء في
المستقبل.
أجيال خاوية عقائدياً، انتقائية أخلاقياً، هابطة روحانياً، مفرغة فكرياً
وثقافياً، مقفرة عاطفياً وإنسانياً، متشرذمة الشخصية، ومزدوجة المعايير، مفاهيمها
وتصوراتها خاطئة في الغالب، هذا هو النتاج الطبيعي لضياع الهوية الرسمية.
ولعل الأبيات التالية لإيليا أبو ماضي تعبر عن حالة الأجيال المتتالية:
جئت لا أعلم من
أين ولكني أتيت
لقد أبصرت طريقاً قدامي فمشيت
وسأبقى سائــراً شئت هذا أم أبيت
كيف أبصرت طريقي كيــــف جئت
لست أدري
ولماذا لست أدري لست أدري
Comments
Post a Comment