لا تكونوا دوماً أسرى للعناوين

مع وفاة الشاب الأردني شادي أبو جابر، احتدمت النقاشات وشذت التحليلات حول الثقافة المجتمعية التي طفت ملامحها على السطح إثر تدفق سيل الآراء الذي حرم الترحم على الأخوة المسيحيين.

كل غنى على ليلاه سواء من رواد شبكات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية الإلكترونية، ومن المختصين ورجال السياسة ودعاة الإصلاح الذين قالت فئة منهم أن هذه الآراء جاءت نتاجاً لانفصال الدينين عن بعضهما في المدارس، فيما قالت طائفة أخرى أنها جاءت نتاجاً لبعض الممارسات الدعوية التي يمارسها رجال دين متشددون.

أي من المتفلسفين لم يفتِ بوضوح وصراحة بالتحليل الأقرب إلى الحقيقة والصحة.

الحقيقة أن هذه الثقافة التي تعرّف بأنها المعارف والمعلومات المنتجة للسلوك الفردي والجماعي، ما هي إلا صناعة محلية بحتة تعود جذورها إلى سنوات تبلغ بطولها طول مسيرة البناء.

والحقيقة أيضاً أن الحكومات المتعاقبة والمعنية بتطوير مسيرة البناء هي من خلقت هذه الثقافة، فهي التي قصرت في تطوير المناهج الدراسية خاصة فيما يتعلق بالمناهج الدينية والتربوية، كما قصرت في رعاية الشباب من الناحية الثقافية والفكرية، هذا إلى جانب تقصيرها في بناء الفكر الجمعي بناءً سليماً حتى في أبسط المسائل التي يتم تداولها في بيوت الله وفي المؤسسات التعليمية والأكاديمية؛ حيث قامت حكوماتنا الرشيدة بتعيين أئمة غير مؤهلين وغير قادرين على القراءة الفكرية العصرية البعيدة عن التلقين للدين فيها، واضعة على عاتقهم مهمة مخاطبة الشعب ووعظه وتفقيهه في أمور دينه ودنياه إلى جانب تمرير رسائلها وترسيخ أفكارها، كما قامت بتعيين أساتذة يتفنون في اختراق العقول وحشوها بأفكارهم هم، فأخرجت بذلك مواطنين بفكر ملووث وقلوب سقيمة وعقول مجوفة كما أرادت، بعد أن أرست قواعد المجتمع الناسخ الذي يتشابه أفراده فلا تميز بين أحدهم والآخر لدى خوض أي حوار معه بفضل البصمة الثقافية التي وحدت إلى حد كبير التكوينات الذهنية والوشائج العقلية.

يلام من لا يجتهد في الاطلاع على دينه وفهمه بالطريقة العصرية التي قصر البشر عن فهمها منذ نزول الدين والقرآن إلا قلة، كما يلام من لا يستفتي قلبه فينتظر الفتوى ممن يفترض أنهم أهل لها، لكن من يلام بالمقام الأول هو الحكومات التي لم تعر انتباهاً لأبنائها ولثقافتهم، كما لم تعمل على إعدادهم إعداداً عقلياً وفكرياً وروحانياً سليماً.

ختام القول: إن المسألة لا تحتاج لمفتي المملكة ليخرج علينا بفتواه التي جاءت طبعاً للحد من الفتنة المتوقعة مخبراً قطيع المستفتين بأن الترحم على المسيحيين جائز ولا ضرر فيه. إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: "وما أرسنالك إلا رحمة للعالمين" ولم يقل للمسلمين ولأصحاب القرآن.

وأخيراً، الرحمة على روح شادي أبو جابر في ظل السياسة الثقافية المهترئة والتحديات التراكمية الناجمة عنها.

Comments

Popular Posts