أنا عندي حنين لكنني أعرف لمين
الأغاني، هي
الأطول عمراً والأكثر تأثيراً والأسرع انتشاراً، كونها بالمقام الأول مستقاة عادة
من الواقع المعاش، ولأنها قادرة على استنطاق الذات وإتاحة الفرصة لمؤلفها ومؤديها
وحتى متلقيها أن يعبر عن نفسه ومحيطه.
عند كتابة
وتأليف الأغاني، فإن الافتتاحيات تعتبر الجزء الأصعب على الإطلاق؛ فبعد اختيار
الموضوع الرئيس للأغنية يأتي الدور على اختيار كلمات موحدة القافية على أن تكون
ملفتة وتعمل عمل مقدمة أي عمل فني آخر.
"أنا
عندي حنين ما بعرف لمين"، افتتاحية مبتذلة لأغنية لاقت صدى واسعاً، عاشت
وستعيش طويلاً، رددناها وما زلنا، وسترددها دون أدنى شك الأجيال من بعدنا. أحقاً
لا تعرف السيدة فيروز ولا نعرف نحن لماذا نتأثر بهذه الأغنية ولمن نردد كلماتها
التي تصل إلى صميم ذواتنا وأعماقنا بشكل من الأشكال؟! بالطبع كل منا يعرف في
قرارة نفسه لمن يردد كلماتها وبمن تذكره ولمن يحن عند سماعها، لكننا لا نتوانى عن
إخفاء نصف الحقيقة؛ غير مدركين لحقيقة أن نصف الحقيقة كذب، وأن إنكار النصف الآخر من الحقيقة يعد بمثابة إنكار لانتماءاتنا، فالانتماء لا يكون فقط للأماكن (الأوطان)، بل للأشخاص أيضاً. أنى لنا هذا الجبروت الذي يجعلنا ننكر انتماءاتنا؟.
هو الخجل
بتعقيداته السلبية التي تدفعنا للامتناع عن التعبير عن مكنونات صدورنا وعواطفنا
وما يعتري قلوبنا منها، أو أنه الخوف من النظرة المجتمعية ذات المفاهيم الازدواجية
المَرضيّة ومن النهج الجمعي القمعي والقهري للنفوس والتفاصيل، أم أنه فقدان
الثلاثية صانعة التاريخ؛ الهوية والانتماء والقيم.
إنه كل ذلك؛
في مجتمعنا المشوه والمعاق فكرياً ونفسياً وعاطفياً، يعلموننا كيفية الإحساس
بالخجل بمنتهى الأريحية، الأمر النابع من جروحهم النرجسية وعدم قدرتهم على العناية
بمتطلبات أنفسهم حتى وإن كانت ممارسة البوح فقط لا غير، يعلموننا الخوف من مواجهة
الهزائم الشخصية، يعلموننا تزييف الحقائق، يعلموننا كسر الأشياء الجميلة فينا،
يعلموننا كيف نصنع ثقوباً صعبة الرتق في جدار ذاكرة مهترئة تعسة، يعلموننا الهروب
والاستكانة كحل لكل معضلة، يعلموننا الأسى وقسوة القلب، يعلموننا كيف نصاب بالخرف الانتقائي، كما يعلموننا مراعاة فضيلة الكلام دون فضيلة الفعل، فهي لا تهم بالنسبة إليهم، افعل ما تشاء لكن
لا تجاهر، يعلموننا التنصل لتاريخنا الأكبر بتعليمنا التنصل أولاً لتاريخنا الشخصي
ومشاعرنا، وبكذبنا على أنفسنا أولاً قبل كذبنا على غيرنا من أجل أن نظهر كما
يريدنا المجتمع.
القلة التي
رحم ربي ورفضت الانخراط مع القطيع، ما هي بنظر المجتمع إلا قلة متمردة وقد تكون
وقحة. هل العيب فيهم أم في هذه القلة؟ سؤال وجودي ستظل إجابته رهن منظور كل منا
وشجاعته. حتى يتم التوحد على إجابة مشتركة تحدد المفاهيم والسلوكيات، سنظل نعيش
صباحاتنا نحن والسيدة فيروز مملوئين بالحنين ونحن ننكر "لمين" ذلك
الحنين هو.
Comments
Post a Comment